إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد،.
عودٌ ثالث إلى مقاعد الدراسة، كان أول لقاء لنا مع هذه المقاعد منذ ما يقرب من سنة تحديداً في الثامن والعشرين من يناير الماضي مع معلم التاريخ حيث وقف عرابي الذي كان يمثل القيادة العسكرية وهو يتبنى مطالب الناس ويقول متأسياً بعمر رضي الله عنه لقد خلقنا الله أحرارا
وكان لقاؤنا الثاني مع معلم لغة العرب وهو يحدثنا عن الضمائر، واليوم لقاؤنا أيضاً مع معلم العربية وهو يحدثنا عن الجملة الفعلية فهو يعرف الفعل بأنه كلمة تدل على معنى في نفسها مرتبطٌ بالزمن، قال تعالى وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ قال صلى الله عليه وسلم ” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ، هذا الزمن، هذا العمر الذي لن تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، حركة يتحركها العبد في هذه الحياة بعمره الذي امتحنه الله عز وجل وابتلاه به الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ هذا الفعل هو ماضي أو حضرٌ أو مستقبل، أيامٌ انقضت من عمر الإنسان يحتاج أن يراجع نفسه فيها وأن يحاسب نفسه لينظر ماذا قدّم ليوم الوعيد يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ
قال عمر رضي الله عنه :حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا وتهيَّؤا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ
هذا ناظر إلى الماضي هو الذي يرتب عمل صالح في الحاضر يهيئ العبد إلى مستقبل أفضل له في الدنيا وبين يدي الله عز وجل والأمة كذلك كالفرد تحتاج أن تنظر في ماضيها وفي تاريخها الذي غبر لتأخذ منه العظة والعبرة بل لتعرف منه أصولها وتهتدي منه إلى هويتها لكي لا تقع في التيه في حاضرها وفي الضياع في مستقبلها، هذه الجملة الفعلية :فعلٌ ينسب إلى فاعل ومفعول يقع عليه الفعل.
حديثنا اليوم عن الإنسان بين الفاعلية والمفعولية.
الإنسان في هذه الحياة الدنيا له إرادةٌ وله قدرة وله فعلٌ مكنه الله عز وجل منه لكن هذه الإرادة وهذه القدرة وهذا الفعل ليس فاعلية مطلقة لكنها فاعلية مقيدةٌ بمشيئة الله عز وجل وإرادته لا يخرج عبدٌ عن مشيئة الله عز وجل وعن سلطانه فالله عز وجل في كتابه نسب إلى العباد أفعالاً يفعلونها سواءً كانت من أفعال الخير أو من أفعال الشر وأمر العباد أن يفعلوا أفعال البر بأن يقيموا الصلاة وأن يؤتوا الزكاة وأن يحققوا إيمانهم ونهاهم عن أفعالٍ من أفعال الشر والسوء.
قال تعالى وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وقال تعالى إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ لكنه قال معقباً سبحانه وتعالى وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
قال تعالى وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌهذا فعل من فاعل يفعله نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وهذا فعل آخر وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ هذا فعل أيضاً فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
وإذاً فالإنسان في هذه الحياة يوصف بالفاعلية، هذه الفاعلية هي محل الاختبار والابتلاء، لكنه لا يملك من الأمر شيئا على الحقيقة، أعطاه الله عز وجل علماً وفهماً وقدرةً وملكه ملكاً،لكنه هو في الحقيقة لا يملك أي شيء من هذه الأشياء إنها موهوبة له من الله عز وجل ليس هو الذي مكّن نفسه منها وإنما الله عز وجل هو الذي وهبه وهو الذي منحه وهو الذي أعطاه،وهو أيضاً لا يملك أن يديم لنفسه أي نعمةٍ من هذه النعم إلا بأن يحفظها الله عز وجل عليه، ولذلك كان في دعاء المسافر أنه يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك.
فإن الله عز وجل إذا استودع شيئاً حفظه، إذا جعلت شيئاً وديعة عند الله حفظ الله عز وجل عليك وديعتك فهو يعلم أنه لا يحفظ الإنسان ولا يحفظ هذه النعم إلا واهبها وموليها سبحانه وتعالى لكنه خصّ هاهنا أعظم الأشياء التي يحرص الإنسان على أن يحفظها الله عز وجل عليه ؛الدين والأمانة والخاتمة الحسنة لكل عمل وكل برّ لم يعرّج على غير ذلك من أمور الدنيا وإن كان الإنسان يحتاج إليها لكنّها ليست بمنزلة هذه الأمور العظيمة التي تحفظ على العبد خيره في الدنيا وفي الآخرة، ولذلك قال الله تبارك وتعالى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا وهذا فعلهم فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ فالإنسان في هذه الدنيا هو فاعل حقاً لكنَّ هذا الفعل الذي يفعل لا يتمّ ولا يمكن منه إلا بأن يهيئ الله عز وجل له أسباباً لتمضي هذا الفعل وتقيمه والإنسان ليس إلهاً إنما هو عبدٌ مربوب مدبر من الله عز وجل ولذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نبتهل إليه وأن ندعوه أن يرشدنا إلى الصراط المستقيم وقرن تبارك وتعالى في فاتحة الكتاب بين إياك نعبد وإياك نستعين، وفي غير موضع من كتاب الله كما قال تعالى فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ إياك نعبد: تحتاج وتفتقر إلى إياك نستعين، الإنسان لا يوفق إلى هذه العبادة إلا بإعانة وتوفيق وتسديد من الله عز وجل وقد تكلمنا قبل في خطبة أو أكثر عن التوفيق والخزلان، توفيق الله عز وجل للعبد والخزلان أن يكون العبد موكولاً إلى نفسه ليس في كلاءة الله عز وجل وحفظه وحبل رعايته إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ولذلك عبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عن محبته له وعن حدبه عليه بأن قال له بعد أن قال ” يا معاذ والله إني لأحبك ” قال ” لا تدعن ” تعبيراً عن محبته نصحه بهذه النصيحة وأمره بهذا الدعاء ” لا تدعنّ أن تقول دبر – أي:في آخر – اللهم أعني – اللهم أعني – على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
كذلك ملك الإنسان في هذه الحياة إنما هو موهوب من الله عز وجل ثم هو مردود إلى الله عز وجل يوماً ما، لذلك كان الله عز وجل هو الوارث الذي يرث الأرض ومن عليها، إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ
فالله عز وجل هو المالك الحق لهذا الكون بكل ما فيه، لكن هذه الفاعلية التي أعطاها الله عز وجل للإنسان هي مسلوبة منه في يوم ما فيتحول هذا العبد من مقام الفاعلية المقيدة هذه التي قيدها قهر الله عز وجل وسلطانه وملكه إلى المفعولية المطلقة حيث لا حركة ولا سكنة ولا إرادة ولا فعل، وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ أي التناول مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ هم يريدون في هذه اللحظات أن يؤمنوا لكنّهم أصبحوا غير ممكنين من الإيمان في هذه اللحظات، وقد كفروا به من قبل في وقت الفعل والفاعلية وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيب
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ هم يشتهون في هذه اللحظات أن يؤمنوا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ مما هو أمامهم ومما هو وراءهم حيل بينهم وبين ما يشتهون من متاع الدنيا الذي باعوا رضوان الله والآخرة والجنة لأجله قد فصل بينهم وبينه ما يتمنونه أمامهم حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا أي في النار نسأل الله السلامة والعافية وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ هذا الفعل وهذه الفاعلية أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ زماناً طويلاً في الدنيا أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ
ولكن العجب أن الله عز وجل أخبر عن هؤلاء أنهم في الحقيقة غير صادقين فيما يخبرون فقال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا ولو ردوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ يخبر رب العالمين سبحانه وتعالى أنهم ليسوا صادقين حتى في هذه الدعوة بعد أن عاينوا العذاب، هم إذا رجعوا إلى الدنيا ووضعوا في نفس المواضع التي وضعوا فيها لاختاروا نفس الاختيارات التي اختاروها ولسلكوا نفس المسالك التي سلكوها لأن قضيتهم لم تكن عدم العلم وإنما كانت إيثار الفانية على الباقية،بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فحينئذٍ حينما تنتهي الفاعلية تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَالمفعول يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواسيق وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا وَسِيقَ الَّذِينَ سيق أيضاً وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا هكذا تنتهي الفاعلية ويساق العباد ويحشرون حشرا.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة: يقبض الله عز وجل الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول – ماذا يقول تبارك وتعالى في هذه اللحظات حينما يؤوب إليه العباد ويرجعون، يقول سبحانه وتعالى أنا الملك أين ملوك الأرض. أين ذهب هؤلاء الذين ظنّوا في أنفسهم الفعل والفاعلية المطلقة أين هؤلاء اليوم.
يقول ابن عمر كما في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهنّ بيمينه فيقول أنا الملك أين الجبارون – ملوك الأرض – أين الجبارون أين المتكبرون، ثم يطوي الأرض بشماله سبحانه وتعالى فيقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون.
يقول عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما كما في المسند يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرِّ في صور الناس يعلوهم الصغار.
أمثال الذَّر:النمل الصغير في صور الناس أي هو هو بشكله وصفته وهيئته لكنه في حجم الذرة، النملة الصغيرة، حتى يطؤهم الناس بأقدامهم في لحظات هول الحشر، يعلوهم الصغار.
هؤلاء المتكبرون الذين ظنّوا في أنفسهم الفاعلية المطلقة الذين نسوا الله تبارك وتعالى حينما ينتقلوا إلى مقام المفعولية يكونون على أسوأ حال وعلى أسوأ وصف.
أما أهل الإيمان الذين وعوا في الدنيا حقيقة حالهم ومقدار فاعليتهم فاستعانوا بربهم تبارك وتعالى ووظفوا هذه الفاعلية التي آتاهم الله عز وجل إياها في مرضاة الله تبارك وتعالى فهؤلاء لهم شأنٌ آخر، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
على كل عبد منا ألا ينسى في غمار مشاغل هذه الحياة ألا ينسى هذه اللحظة التي سوف يتحول فيها من مقام الفاعلية إلى مقام المفعولية فيسلب كل قدرة ويحال بينه وبين كل شهوة حين يأتيه الملك ويسلب منه هذه الروح، حين يوضع في هذا القبر فيسأل عن ربه وعن دينه وعن نبيه صلى الله عليه وسلم وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
قد لوحظ في أيامنا هذه ربما تردد العبد على المواطن التي يقبر فيها العباد ويدفنون ويلاحظ أن الذين يذهبون إلى تشييع الجنائز قد قلّوا كثيراً في هذه الأيام وأصبح أكثر الناس يكتفون بأن يأتوا مساءً إلى دار المتوفى أو إلى دار مناسبات فيجلسون قليلاً ويسمون هذا واجب يؤدونه، وهذا خروج منّا عن مقصود ربنا تبارك وتعالى في تشريع هذه الأحكام.
أولاً الذي يذهب ليشيّع ميتاً إنما يؤدي حقاً لأخيه هذا المتوفى عليه فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حق المسلم على المسلم إذا مات أن تشيّعه، فأنت لا تذهب لكي تؤدي واجباً لحق أهله وإنما الأوجب علينا أن نؤدي حقاً لهذا المتوفى، هذا أولاً، ثانياً:هذا المتوفى وكلنا سيؤوب إلى ذات المصير يحتاج إلى هذه اللحظات، لحظات المفعولية المطلقة إلى من يدعو الله عز وجل، إلى من يستشفع الله عز وجل فيه، إلى من يسأل الله عز وجل أن يرزقه الثبات في هذه اللحظات الشديدة التي تضطرب فيها النفوس ولذلك أعجب كل العجب من هذا الملقن الذي يستهزء ويستهين بهذا المشهد العظيم حينما يجلس على شفير القبر فينادي مقبوراً مدفوناً فيقول يا عبد الله إذا أتاك الملكان فسألاك من ربك فقل ربي الله، وإن…
نحن ويكأننا تعودنا الغش في هذه الدنيا فتصورنا أنه أيضاً سوف يصير منهاجاً لنا أيضاً في الدار الآخرة إن الإنسان يسأل في هذه اللحظات عن عمله وحاله ولا يثبت فيها إلا من ثبته الله عز وجل يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ
الأمر الثالث والأخير قول النبي صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور.
لما كانوا يأتون فيها في أول إسلامهم من أمور الجاهلية حتى إذا وعوا الإسلام وفهموا حقيقته قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة.
نحن نحتاج ما بين الحين والحين إلى أن نتذكر هذه الآخرة نتذكر هذه اللحظات، نتذكر هذه المفعولية، نتذكر زوال الفاعلية لأن تذكر الإنسان الدائم لهذه اللحظات هو الذي يهيئه لكي يعد لهذه الأسئلة جواباً لكي يؤوب إلى الله عز وجل مأباً طيباً صالحاً فيكون في عداد الذين ذكرهم الله عز وجل فقال يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وصفهم الله عز وجل بأنهم أهل التقوى وأنهم يحشرون وفداً، الذين تحسن رفادتهم ويحسن استقبالهم ويكرمون ويشرفون، وقال في مقابلهم وَنَسُوقُ أي ندفعهم دفعاً هكذا في ظهورهم وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا عطاشاً، فالله عز وجل جعل الذين يحشرون فصيلين وقسمين لا ثالث لهم، أهل تقوى يحشرون وفداً،وأهل إجرامٍ يحشرون وردا.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتقين وأن يجنبنا مسالك المجرمين.
وأن يرزقنا علماً وفهماً ووعياً لهذه الحقائق، لحقيقة الفاعلية ولحقيقة المفعولية وأن يرنا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرنا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك، حرباً لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.