بسم الله والحمد لله وأشهد أن لاإله الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ما زلنا مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبىّ رضى الله عنه يا أبا المنذر أتدرى أى آيه فى كتاب الله معك أعظم؟ قال الله ورسوله أعلم. قال يا أبا المنذر أى آية فى كتاب الله معك أعظم؟ قال: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صدره وقال ليهنك العلم أبا المنذر.
تكلمنا بالأمس عن ندائه الحبيب صلى الله عليه وسلم وقوله ” يا أبا المنذر ” وما فى هذه الكلمة وفى هذا النداء من التحبب والتودد مع التقدير والإكرام. مع ملاحظة إن هذا كان شأن الكبير مع الصغير، كان شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه.
ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيّا عن أعظم آية فيما يحفظه من كتاب الله تبارك وتعالى فرد أبىّ رضى الله عنه العلم فى ذلك إلى الله تبارك وتعالى، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأدبا وتواضعا، النبى صلى الله عليه وسلم سأله سؤالا فقال: الله ورسوله أعلم. لأن مقامه مع معلمه ونبيه صلى الله عليه وسلم هو مقام التعلم والفهم وليس التقدم بين يديه بالكلام.
فكرر النبى صلى الله عليه وسلم سؤاله كما هو فعلم أبىّ حينئذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يريد منه جواباً ويسأله لكى يستخرج ما عنده من علم.
فلما كرر صلى الله عليه وسلم عليه السؤال أجاب فقال اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، أى آية الكرسى، وكان موفقا رضى الله عنه فهنأه رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا السداد فى الجواب وعلى هذا العلم والفهم فضرب فى صدره وقال: والله ليهنك العلم – أى هنيئا لك العلم – أبا المنذر. هنيئاً أى تنتفع به فى الدنيا والآخرة.
هذا الخطاب من الرسول صلى الله عليه وسلم يوقفنا على مسألة وهى كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسدى العلم إلى أصحابه؟ كيف كان يربيهم ويقربهم ويدربهم على تكوين ملكة الإستنباط والفهم؟ لا يلقى إليهم العلم إلقاءاً بحيث يكون دور أتباعه وأصحابه صلى الله عليه وسلم هو دور التلقى والتلقين وفقط. بل هو يربيهم على أن يكونوا فقهاء علماء قادرين على التدبر والإستنباط لكى يكونوا قادرين على تحمل أمانة الدين وتحمل أمانة العلم من بعد إنتقاله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه عز وجل.
فهو يلقى على أبىّ سؤالاً ويكرر سؤاله ليستخرج ما عنده من علم وفهم ونظر وتفكر وتدبر فى كتاب الله عز وجل.
يقول عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فى حديث بصحيح البخارى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما وكان معهم فى ذلك المجلس ابن عمر – وروى فى بعض الروايات أنهم كانوا حوالى عشرة من كبار الصحابة وجاء فى بعض الروايات أن فيهم أبو بكر وعمر – فقال صلى الله عليه وسلم إن من الشجر شجرة لايسقط ورقها وهى مثل المؤمن أخبرونى ما هى. يقول ابن عمر فوقع الناس فى شجر البوادى – أخذوا يفكرون فى أنواع كثيرة من الشجر وكل منهم يقول نوعا مختلفا – يقول ووقع فى قلبى أنها النخلة فاستحييت. استحيا عبد الله بن عمر أن يتكلم وهو أصغرهم وأحدثهم سناً فى محضر من هؤلاء الكبار من الصحابة. فقالوا يا رسول الله أخبرنا قال: هى النخلة. فلما خرجنا قلت لأبى يا أبت قد كان وقع فى قلبى أنها النخلة .. فقال له عمر رضى الله عنه لئن كنت قلتها لكان هذا احب إلىّ من كذا وكذا. تمنى أن يقول ابن عمر ذلك ليظهر علمه وفضله لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليه مزيد عناية وإهتمام.
فهنا النبى صلى الله عليه وسلم – وفى بعض الروايات أنه أتى بجمّار وهو قلب النخلة – فلما أتى به ذكر هذه الكلمات. ويكأنها إشارة إلى الربط بين هذا الذى فى يده من النخلة وتشبيه النخلة بالإنسان المؤمن أنها لايسقط ورقها قال مثل المؤمن. أى هذه النخلة كل ما فيها خير. ويكأن هذه إشارة إلى أن الإنسان المؤمن كل ما فيه خير. ولذلك الله سبحانه وتعالى مثّل شجرة الإيمان فى القلب كمثل النخلة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
يخرج أثر الإيمان بالكلم الطيب والعمل الصالح فى كل وقت. إذن النبى صلى الله عليه وسلم ها هنا أراد أيضا أن يثير ذهن الصحابة لكى يفكروا ويتأملوا، يقارن ما بين هذه الأشياء المحسوسة التى نراها ونلمسها وبين الأشياء المعنوية، ربط الإيمان أو وصف الإنسان المؤمن بهذه النخلة التى كلها طيب.
النبى صلى الله عليه وسلم يريد من الإنسان أن يتفكر فى القرآن كما تفكّر أبىّ، أن يتفكر فى خلق الله سبحانه وتعالى، وفى هذه الأشياء المحسوسة التى تجرى حوله وفيما خلق الله سبحانه وتعالى وبث من خلق. يريد أن يربى فى الصحابة ويربى فى الأمة على وجه العموم كما قلنا ملكة الإجتهاد والإستنباط.
تكلمنا بالأمس عن الأخلاق وعن الحب والمودة وعن التقدير والتكريم وتكلمنا اليوم عن إثارة الذهن والتفكير والإجتهاد بالعقل والمنطق. أى إنسان لكى يستقيم أمره يحتاج إلى أكثر من هذين الشيئين: عقل ناضج يفهم ويستوعب ويحلل ويستطيع أن يتحرك فى واقعه وأن يواجه الملمّات. وقلب صاف ملىء بالمحبة ملىء بالأخلاق الطيبة والخلق الجميل. النبى صلى الله عليه وسلم قال فى وصف أفضل الناس كل مخموم القلب صدوق اللسان.. لسانه صادق وقلبه مخموم يعنى لا يبقى فيه غل ولا إثم. قيل يا رسول الله أما صدوق اللسان فقد عرفناه فما مخموم القلب؟ قال هو التقى النقى لا إثم فيه ولا بغى ولا حسد.
الإنسان لايحتاج إلى أكثر من ذلك. النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه الكلمات بدا منه صلى الله عليه وسلم التربية العلمية على الفهم والإجتهاد. بماذا يستعلى علينا أعداؤنا هؤلاء الذين ينتقصوننا أو ينتقصون ديننا أو ينتقصون تاريخنا؟ لماذا يستعلون علينا؟
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسم لنا منهاجا عمليا فيه الخلق الفاضل وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وفيه العلم والفهم. نحن فى صلاة العشاء استمعنا فى الركعة الثانية إلى قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أول كلمة خاطب بها الله تعالى النبى وخاطب بها هذه الأمة هى كلمة إقرأ التى تدل على التدبر والتفهم والتفكر والعلم ولذلك النبى صلى الله عليه وسلم قال: نضّر الله امرأ سمع مقالتى فوعاها فأداها كما سمعها فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه وربّ حامل فقه ليس بفقيه.
النبى صلى الله عليه وسلم يعلم أن الناس منازل ومراتب ودرجات فهو يطلب ممن سمع منه حديثاً إن يحفظه بنصه لكى ينقله إلى من بعده أو إلى من وراءه بنصه لأن هذا النص، هذا الشخص حافظ هذا الحديث ربما لا يكون عنده من العلم أو الفهم ما يستطيع أن يستنبط من هذا النص أحكاما فيجب عليه أن ينقله إلى من وراءه لأن هذا الذى ينقل له ربما كان أكثر علماً وفهما فاستخرج من هذا الحديث أو من هذا الكلام النبوى أحكاما ربما لا يقدر هذا الأول على إستنباطها ولا إستخراجها.. فأمره بنقل هذا ودعا له بالحسن ونضارة الوجه. فالنبى صلى الله عليه وسلم حين سأل أبىّ بن كعب رضى الله عنه كما قلنا سأله ليستخرج منه هذا العلم والفهم. ولكن السؤال أولا كيف أدرك أبىّ بن كعب رضى الله عنه هذا السر العظيم وأن هذه الآية هى أعظم أية فى القرآن الكريم من قبل إن يخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانيا أنه أجاب على البديهة يعنى هذه المعلومة كانت موجودة عنده مسبقا لم يفكر فيها لأنه أجاب مباشرة.. فكيف توصل أبىّ رضى الله عنه إلى فهم هذا وإلى إدراك هذا من قبل أن يخبره بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم؟
نبقى مع السؤال الأول الذى قلناه لماذا كانت آية الكرسى أعظم آية فى كتاب الله؟