إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد: صراع الإنسان والشيطان قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ فكان ما قال.
قال تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ وقع ما ظنه بهم فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ولذا قال تعالى وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ قال تعالى وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وذكر فيمن آمن منهم وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ولذلك جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول لآدم عليه السلام يوم القيامة قال: يا آدم فيقول: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: أخرج بعث النار، أي من ذريتك، فيقول: يا رب كم، قال: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون.
فمعدل النجاة واحد في الألف، هؤلاء الأقلون من المؤمنين قطعاً هم يعيشون في حالٍ من الغربة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء.
كان إبراهيم الحربي جالساً مع أصحابه يوماً فسألهم من تعدّون الغريب فيكم، من هو الشخص الذي يستحق أن يوصف بأنه غريب فقال أحدهم: الغريب من نأى عن وطنه وأهله، وهذا هو المفهوم الذي نعيه ونعقله جميعاً، الغربة أن يغادر الإنسان داره ويترك وراءه أهله وأقاربه طلباً لأمرٍ من أمور الدنيا
وقال آخر الغريب من فارق الغريب من فارق أحبابه، وقال الآخرون أشياء أخر. فقال إبراهيم الحربي: لكن الغريب فينا، أو قال: في زماننا؛ رجلٌ صالحٌ عاش بين قومٍ صالحين، إن أمر بمعروفٍ آذروه وإن نهى عن منكر أعانوه، وإن احتاج لأمرٍ من أمور الدنيا مانوه: أي ساعدوه وأمدوه بما يحتاجه من متاع هذه الدنيا، ثم ماتوا وتركوه.
هذا هو الغريب حقّاً رغم أنه ربما هو يعيش بين أهله وأقاربه وذويه وعشيرته لكنه غريبٌ بقيمه غريبٌ بمبدئه غريبٌ بنمط تفكيره يعجب من الناس، والناس أيضاً يعجبون منه هذه هي حقيقة الغربة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أشد ما تكون أثراً على قلب الإنسان المؤمن أن يعيش غريباً بدينه وسط أهله وأقاربه وبني وطنه، نوذجٌ لهذه الغربة لنتصوّر حقيقة حالها وكيف تكون.
عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في أواخر أيام خلافته نقف معه وقفات لنتصوّر ما معنى الغربة، هو في هذه الأيام أميرٌ للمؤمنين خليفةٌ للمسلمين يحكم فيهم ويأتمرون بأمره، ومع ذلك تحققت فيه حقيقة الغربة إذ أصبح يعيش بين قومٍ ليسوا على السنن الأول، غادره أصحابه :أبوبكر وعمر وعثمان وعامّة كبار الصحابة، مات منهم من مات واستشهد منهم من استشهد وتفرّق منهم في الأمصار من تفرّق وبقي هو في الكوفة مع نفرٍ قليل من أصحابه بين قومٍ ينكرهم وينكروه.
وقف يوماً على المنبر يخطب فقطع عليه الخوارج خطبته عارضوه في كلامه وهو يتكلم فنزل ترك المنبر ونزل،ثم قال: إن مثلي ومثل عثمان كمثل ثلاثة ثيران كانوا في أجمةٍ مع أسد.
هو يقول إن حالي ومثلي ومثل عثمان رضي الله عنه الذي قُتل شهيداً قبل ذلك بسنواتٍ خمس، إن مثلي ومثل عثمان كمثل ثلاثة ثيران أبيض وأحمر وأسود، كانوا في أجمة أي في غابة، مع أسد.
فكان إذا أراد الأسد أحدٍ منهم بسوء منعه الآخران، فقال الأسد للثور الأسود وللثور الأحمر، إن هذا الأبيض قد فضحنا في أجمتنا هذه، فضحنا: أي بلونه هذا الصافي الجميل يظهرنا بمظهر سيئ قبيح فلو خليتما عنه، تركتموه لي، ففعلا، فأكله.
ثم كان بعد ذلك إذا أراد أحد هذين الثورين بسوء منعه الآخر، فقال للأحمر: إن هذا الأسود قد فضحنا في هذه الأجمة وإن لوني على لونك يخاطب الأحمر فلو تركته لي، فتركه فأكله، ثم أراد الأحمر بسوء، فلم يستطع أن يمتنع منه، فقال: اتركني حتى أصيح ثلاث صيحات، قال: دونك، أي صح كما شئت طالما أن النتيجة أني سوف آكلك، فصاح الثور الأحمر:ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض،ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض، ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض، فقال عليّ رضي الله عنه: ألا إني وهنت يوم قتل عثمان، ألا إني وهنت يوم قتل عثمان، ألا إني وهنت يوم قتل عثمان.
وقال أبو صالح الحنفي: رأيت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقد أخذ بكتاب الله عز وجل – بالمصحف – فوضعه فوق رأسه ثم قال: اللهم إنهم منعوني – أي أصحابه وأعوانه الذين يخذلونه – اللهم إنهم منعوني أن أقوم في هذه الأمة بكتاب الله، اللهم أعطني أجراً بما فيه، ثم قال: اللهم إني مللتهم وملّوني، وأبغضتهم وبغضوني، وحملوني على غير طبيعتي وخلقي وعلى أخلاقاً لم تكن قد تعرف مني.
هو بمعاشرتهم له غيروا من طبيعته ومن أخلاقه ومما اعتاده في آدابه وأخلاقه بمعاشرته لهم،، اللهم فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي بشرً مني، يقصد هؤلاء الذين يصاحبونه من أهل الكوفة، كما قال عمر رضي الله عنه في آخر خلافته: اللهم كبر سني ورقّ عظمي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفرّطٍ ولا مضيّع.
يسأل الله عز وجل أن يقبضه إليه وأن يرفع عن كاهله عبء هذه الأمانة التي حمّلها، وكان من دعائه رضي الله عنه أنه كان يقول في أُخرياته: اللهم إني أسألك شهادةً في سبيلك ووفاةً في بلد نبيّك صلى الله عليه وسلم فكان بعض بنيه إذا سمع ذلك تعجّب منه كيف يجتمع له الأمران، إن أراد الشهادة فإلى هناك، في عمق بلاد الشام أو في عمق بلاد الفرس، حيث جهاد الكفّار، وأما في المدينة فأنى له بذلك فساقها الله عز وجل إليه واستجاب الله عز وجل له.
وعن كميل بن زياد رحمه الله قال: أخذ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي فأخرجني إلى ناحية الجبّان، فلما أصحرنا، تنفّس ثم قال: يا كميل بن زياد القلوب أوعية فخيرها أوعاها احفظ عني ما أقول لك، ثم ذكر وصيّة طويلة.
فهنا كميل بن زياد رحمه الله شابٌ صغير في السادسة عشر من عمره أخذه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من يده وخرج به إلى الصحراء، خرج إلى ناحية الجبّان إلى حيث المقابر، فلما أصحرنا أي: خرجنا من البلد زانقطعنا عنها وعن أهلها بالكلية، جلس على الأرض على رمال هذه الصحراء، ثم تنفّس أي تنهّد تنهّد المهموم، ثم بدأ يخاطب هذا الشاب الصغير الذي اصطفاه من بين هذا الخلق ليلقي إليه كلمات فقال: الناس ثلاثة عالمٌ ربانيّ، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاعٌ أتباع كل ناعق، ثم ذكر كلاماً وذكر من جملته وهو الشاهد قوله: إن هاهنا – وأشار إلى صدره – من الذي يتكلم، هو عليّ رضي الله عنه، عالمٌ من كبار علماء الصحابة حقيقٌ بالناس أن يجلسوا عند قدميه وأن يعرفوا قدره وأن يتعلموا منه العلم الذي علمه الله عز وجل إياه، هو يقول: إن هاهنا علماً لو أصبت له حملة، هو لا يجد أحداً يأخذ عنه هذا العلم ويتحمّل عنه هذه الأمانة،، غربةٌ وأي غربة.
إن هاهنا علماً لو أصبت له حملة، بلى أصبته لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بنعم الله على عباده وبحججه على كتابه. هو يقول إنني أبحث عن شخصٍ أبثُّ في صدره هذا العلم فلا أجده وإنما أجد أحد رجلين الأول، قال: أصبته لقناً، هو يحفظ ويعي ويفهم، لكنه ليس مأمون على الدين من حيث التقوى والورع والخشية من الله عز وجل ، فهو يخشى ويحذر أن يعطيه هذا العلم فيستثمره في غير طاعة الله وفي طلب الدنيا وفي الصدّ عن سبيل الله.
يستظهر بنعم الله: التي آتاه الله إياها من علمٍ وفهم على عباده فيتكبّر عليهم، وبالحجج التي علمها على كتاب الله، يضرب كتاب الله بعضه ببعض ويلبّس الحق بالباطل وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أو منقادٌ لأهل الحق: شخصٌ طيب لكنه ليس من العلم والفهم بحيث يتحمل هذه الأمانة، أو منقادٌ لأهل الحق لا بصيرة له في إحيائه ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، لا ذا ولا ذا، لا هذا يصلح ولا هذا يصلح.
أو منموماً باللذات سلس القياد للشهوات أو مغرماً بجمع المال والادخار ليس من دعاة الدين في شيء.
فعليّ رضي الله عنه قسم الناس جميعاً إلى أربعة أقسام: رجلين منهما في المسجد وآخران خارج المسجد أما الأولان اللذين في المسجد فرجلٌ عنده وعيٌّ وعنده عقلٌ وعنده ذكاءٌ وعنده فهم لكنه يفتقر إلى الورع والخشية لله عز وجل، وآخرٌ عنده شيء من الورع والخشية ومحبة الخير لكن ليس عنده آلة العلم التي يصلح أن يتلقى بها العلم.
وأما الآخران اللذان خارج المسجد، فرجل أغرقته الشهوات الشيطانية في لججها وفي بحورها وآخر لا همّ له إلا جمع الأموال لا يعنيهم قضية الدين في شيء فهاهنا عليّ رضي الله عنه يبحث عن شخصٌ يبثّه العلم الذي آتاه الله عز وجل إياه فلا يجده.
وعن أبي ركانه رحمه الله قال: صليّت مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الصبح، فلما انصرف من صلاته انفتل عن يمينه أي التفت إلى هذه الجهة وبقي ساكتاً تبدو عليه الكآبة حتى إذا طلعت الشمس نظر إلى وجوه القوم الذين في المسجد ثم قال: لقد صحبت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم أرى اليوم شيئاً يشبههم كانوا يصبحون صفراً غبراً، يبدو عليهم أمارات الشحوب، بين أعينهم مثل ركب المعزل، ناتئة من كثرة سجوده، قد باتوا لله عز وجل سجّداً وقياماً يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأرجلهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله عز وجل مادوا أي: اضطربوا، مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم من خشية الله عز وجل ووالله لكأني بالقوم – الذين أمامهم – باتوا غافلين، ثم نهض فما رؤيَ ضاحكاً حتى قتل رضي الله عنه، ضربه ابن ملجم على رأسه فمات.
فهذا عليّ رضي الله عنه يستشعر ويحسُّ بهذه الغربة الشديدة في هذه المواقف الأربعة التي ذكرناها والتي تبيّن الأثر النفسي الشديد لهذه الغربة على نفس العبد ولكن مع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشّر هؤلاء الذين يستشعرون هذه المعاني والذين يحسون بهذه الأحاسيس بالحياة الطيبة في الأولى والآخرة، إذ يقول صلى الله عليه وسلم : ” بدأ الإسلام غريباً ” حين بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، فكذبه أكثر الناس واتبعه أقلّهم ثم تزول هذه الغربة على طول الزمان، ثم يخبر صلى الله عليه وسلم أن الدين يعود غريباً كما كان غريباً أول مرة لكنّه يبشّر هؤلاء الذين هم الغرباء بأن لهم الحياة الطيبة، فيقول صلى الله عليه وسلم ” فطوبى للغرباء ” قيل من هم يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم ” هم النزّاع من القبائل ” وقال صلى الله عليه وسلم ” الذين يصلحون إذا فسد الناس ” وقال صلى الله عليه وسلم ” هم أُناسٌ صالحون في أُناس سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ” فوصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوصاف فذكر أولاً أنهم النزّاع من القبائل أي ينزعون من هذه القبائل نزعاّ، يعني من الجمع الغفير والعدد الكثير لا يستجيب ولا يلتزم بهذا الدين حقّ التزامه إلا الواحد تلو الواحد، لكن هؤلاء على هذا الوصف هم مبشّرون بالبشارات العظمى من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال عمر رضي الله عنه فيما رواه ابن حبان وأبو داوود – إن من عباد الله لأُناساً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة على قربهم ومكانهم من الله عز وجل فقيل من هؤلاء يا رسول الله، قال: هم قومٌ تحابوا بروح الله عز وجل على غير أرحام بينهم – ليست هناك صلات قرابة – ولا أموال يتعاطونها – ليس على صلة قرابة أو نسب ولا لسبب من أسباب الدنيا وإنما محبّة خالصةً لله وفي الله سبحانه وتعالى
هم قومٌ تحابوا بروح الله على غير أرحامٍ بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
وقال صلى الله عليه وسلم ” هم الذين يصلحون إذا فسد الناس ” إذا كثر الفساد في الناس وكثر الفساد في المجتمعات تحملوا على كواهلهم عبء الإصلاح، فهم ليسوا ساعين لصلاح أنفسهم فقط، وإنما هم ساعون لإصلاح مجتمعاتهم صابرون على طريقهم وعلى ما عاهدوا الله عز وجل عليه، وقال صلى الله عليه وسلم هم أُناسٌ صالحون لكنهم قليل، في أُناس سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، فهم يأمرون وينهون، ينصحون ويوجهون ويرشدون لكنّهم في الغالب لا يجدون آذان صاغية، هناك من يطيع وهناك من يستجيب وهناك من يصغي ويسمع، ولكن أكثر الناس لا يصغون ولا يسمعون، وهذه تزيد في غربتهم لكنهم دائماً يتذكرون أن هذا هو طريق أنبياء الله عز وجل ورسله، وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لما عرضت عليه الأمم قال: فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان ورأيت النبي وليس معه أحد.
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيّاً من الأنبياء بعثه الله عز وجل في أمة من الناس فلم يستجب له أحد، ولم يتّبعه على الحق الذي جاء به من عند الله عز وجل أحد، فبقي وحيداً فريداً في أمة من الناس، لكنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشراً ” فطوبى للغرباء “
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين
الذين يصلحون إذا فسد الناس، هم حقّاً دعاة الإصلاح إننا اليوم كثيراً ما نتكلم عن هذه الكلمة يشغلنا جميعاً هذا الأمر أو على الأقل يشغل الذين يعقلون، والذين يهمّهم مصلحة هذه الأمة ويهمّهم أمر حاضرها وأمر مستقبلها، هم يتكلمون أو يفكّرون يفكّر كل ذي عقلٍ وكل ذي لب، كل ذي مبدأ وذي هدف يفكّر في تحقيق الإصلاح، نحن نتكلم كثيراً عن الإصلاح الاقتصادي، نتكلم كثيراً عن الإصلاح السياسي لكننا أبداً لا نتكلم عن أصلاح أخلاقي، عن إصلاح قيمٍ ومبادئ عن إصلاح تصورات ومعتقدات، السلوكيات، إن الإنسان هو قوام التنمية، هو قوام السعادة، هو قوام الإصلاح، الإنسان كقيمة كرمه الله عز وجل، بنيان الإنسان أهمّ من بنيان المباني والقصور والبنية التحتية وما غيرها وما سواها وما عداها، إن حقيقة البناء هو بناء الإنسان، نحن نتكلم عن الأموال المنهوبة لكننا لم نتكلم أبداً عن أخلاقٍ منهوبة وعن قيم منهوبة وعن مبادئ منهوبة، إن الفترة الماضية التي عاشتها هذه البلاد كانت تدميراً شاملاً لبنية المجتمع، ليس فقط البنية الاقتصادية، بل أهم من ذلك وفوق ذلك بنيان الإنسان، بنيان المبادئ وبنيان القيم، هذه هي قيم الإنسان، نحن تعلّمنا في مدارسنا كلمة شوقي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ثم أصبحنا اليوم حتى لا نسمع هذه الكلمات سمعنا وتربينا كذلك على قول حافظ:
من لي بتربية البنات فإنها في الشرق علّة ذلك الإخفاق
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
على هذه الكلمات – هذه ليست آيات قرآنية – على هذه الكلمات تربينا في مدارسنا، على هذه الكلمات نشأنا وترعرعنا، أما اليوم لا تسمع هذه الكلمات، لقد عشنا زماناً نسمع إلى رئيس بلادنا يقف يخاطب ثمانين مليون من الناس يتكلم على أنه قد أرسل رسائل إلى رئيس العراق يدعوه فيها إلى الاستسلام وهو أصلاً كان قد سمح لقوات التفتيش وللجان التفتيش أن تفعل بالعراق ما تشاء وكانت العراق محاصرة فماذا يريد هنا فوق ذلك، ثم هو يقول: أرسلت إليه رسائل وقال لي الكرامة، وأشاح بكتفه هكذا،، هو هذا رئيسنا نحن يستهزء ويسخر بالكرامة، ماذا بقي لنا إذا لم تبق لنا كرامة، الله عز وجل رفع الإنسان وكرّمه بهذه الكرامة، إذا وصلنا إلى حد نستهزء فيه بالكرامة فلم تبقى لنا قيمة ولم يبقى لحياتنا معنىً، هذا هو أيضا وهو يتكلم يتكلم عن اليهود يقول: إن هؤلاء معروفون بالوفاء بالعهود وأنهم يلتزمون بكلماتهم ومواثيقهم، والله عز وجل يقول فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
يتكلم عن السارق فيقول: إن هذا مريض، هو يستنكر حدّ القطع الذي قاله الله عز وجل في كتابه وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يقول هذا مريض يحتاج أن يعالج، ثم علمنا بعد من هو المريض، ومن هو الذي يحتاج أن يعالج.
هذه القيم هذه المبادئ هي التي يقوم عليها المجتمعات إذا أردنا بنياناً سليماً، إن الإنسان لن يرتدع عن فساد إلا إذا كان يستشعر دائماً رقابة الله عز وجل .
إن عمر رضي الله عنه كان يكتب دوماً إلى عماله يقول لهم: إن أهم أعمالكم عندي الصلاة، فمن كان مضيّعاً لصلاته، الأمانة التي ائتمنه الله عز وجل عليها فهو لما سواها أضيع، إذا ضيّع حق الله فهو لا يبالي بما وراء ذلك وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إن الإنسان لن يرتدع عن فسادٍ أو رشوة، لن يرتدع عن ظلمٍ أو استبدادٍ أو استعبادٍ لعباد الله إلا إذا علم ن الجبّار سبحانه وتعالى رقيبٌ عليه، وأن الله سبحانه وتعالى قاهرٌ فوق عباده، وأن الملك وأن الجبروت وأن العظمة لا تنبغي إلا لله، قال الله تعالى:العظمة إزاري والكبراياء ردائي فمن نازعني قسمته.
إذا أردنا الإصلاح حقيقة الإصلاح، فلنبدأ بما ينبغي أن نبدأ به، الإنسان،، الإنسان قبل كل شيء. الله عز وجل جعل في شريعته الغراء مبادئ وأصول خمسة يجب أن تقام وأن تحفظ لكي يكون بنيانٌ سليماً،: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل، ثم حفظ العرض، ثم حفظ المال.
لقد دمّروا هذه الأصول الخمسة تدميراً، تدميراً متعمداً ليس عشوائياً، فإذا أردنا إصلاحاً فنحن نحتاج إلى جهدٌ حقيقيّ، نحتاج إلى تكاتف كل جهد مخلص على زمان طويل ولكن لنحسن نقطة البدء إذا أردنا حقيقةً ن تنصلح أحوال هذه المجتمعات.
موسى عليه السلام حينما نجاه الله عز وجل وبني إسرائيل من فرعون وكيده، وأغرق الله عز وجل فرعون، قال تعالى وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ بمجرد أن عبروا البحر بعد هذه النعمة والمنّة العظيمة وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ أول شكرٍ لهم على نعمة الله عز وجل بأن أنجاهم من هذا الحكم الظالم المستبد أنهم يبحثون لهم عن طريق غير طريق الله عز وجل ، يبحثون عن إله لهم يرجعون إليه ويفيؤن وينيبون غير الله عز وجل الذي كل نعمة حلّت بهم إنما هي من فضله وكرمه ومنّته، ولذلك هؤلاء القوم الذين قالوا هذه الكلمات والذين تربّوا في هذا الحكم الفرعوني كانوا يحتاجون إلى زمان طويل لكي يصلحوا أحوالهم
أمرٌ أخير: نحن نعيش تحت ضغطٍ ومكرٍ شديد يراد لهذه الأمة، ولا نجاة من المكر ومن الكيد الذي يريده أعداء الأمة بها إلا أمرٌ واحد لا محيص عنه، هو الاعتصام بالله واللجوء إلى الله عز وجل ، فلن ينجي من المكر والكيد إلا الله عز وجل ، قال تعالى إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ ليس عندنا وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
لا قبل لنا ولا قوة لنا على مدافعة كيد الشيطان ومكر أوليائه إلا باللجوء إلى الله كما أمر الله عز وجل وأوصى، وإلا بالاعتصام بحبل الله عز وجل، فلا نجاة لنا إلا بهذا فإن استمسكنا به فهي سعادة الدارين وإن تنكّبنا الطريق فنسأل الله عز وجل السلامة والعافية.
اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، واعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا. واهدنا ويسر الهدى إلينا.
اللهم اهدنا ويسر الهدى إلينا، اللهم اهدنا ويسر الهدى إلينا.
اللهم اجعلننا لك ذكارين، اجعلنا لك شكارين، اجعلنا لك راهبين، اجعلنا لك مطواعين إليك آواهين منيبين.
اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وامح خطيئتنا واسلل سخيمة صدورنا.
أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية ويحكم فيه الكتاب ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.