بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
بالأمس تكلمنا عن الزهراوين سورة البقرة وسورة آل عمران، قال الله تبارك وتعالى فيما إستمعنا إليه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ثم قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
ففى هذه الآيات – والمقصود إشارة لمعنى سنذكره بإذن الله – فالله سبحانه وتعالى نهى المؤمنين عن طاعة هذا الفريق من أهل الكتاب لأن مآل هذه الطاعة أنهم يردونهم بعد إيمانهم كافرين. إذن هذا القرار المترتب على مخالفة أمر الله إنما يعود بعائدته علينا وليس على الله تبارك وتعالى. فالأمر بتقوى الله عز وجل اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ والإعتصام بحبل الله تبارك وتعالى والإستمساك بالقرآن إنما يعود فضله وعائدته علينا ولا يعود على الله عز وجل منه شىء.
الأمر بترك الربا الذى قال الله عز وجل فيه فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هذا أيضا مرده وعائدته علينا لا يعود على الله عز وجل منه شىء. إذن كل شىء الله سبحانه وتعالى أمر به وكل شىء ربنا سبحانه وتعالى نهى عنه إنما يأمر به وينهى عنه لحكمة بالغة ولمصلحة تعود عائدتها على عباد الله تبارك وتعالى. القاسم المشترك فى كل هذه الآيات هو هذا التصدير ب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فالله عز وجل حينما يأمر وينهى إنما يوجه خطابه لفريق معين من الناس وهم الذين إتصفوا بهذه الصفة التى هى صفة الإيمان. بينما نجد ربنا تبارك وتعالى إذا خرج الإنسان عن دائرة أهل الإيمان لم يكن فى خطابه تبارك وتعالى أمر ولا نهى..لايقل له إفعل ولا تفعل.
إذن هذه الأوامر التى هى الحكمة وبها الخير وهذه النواهى التى فى تركها المصلحة إنما يخاطب بهذه الأمور الذين حققوا معنى الإيمان والطاعة لله تبارك وتعالى.وحين يقول الله تبارك وتعالى مخاطبا عموم الناس يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ أى أنك تلقى التعب والنصب وأنت فى طريقك إلى الله تبارك وتعالى فأنت مردود إلى الله راجع إليه لا محالة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا.
ويقول الله تبارك وتعالى يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا… وكان أمرالله مفعولا.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.
إذن فالله سبحانه وتعالى إذا خاطب الإنسان سواء بخطاب المفرد أو بخطاب الجماعة.. خاطب الذين أوتوا الكتاب إنما يخاطبهم ويأمرهم بالإيمان, فإذا حققوا معنى الإيمان فحينئذ يخاطبهم بخطاب الأوامر والنواهى, بخطاب إفعل ولا تفعل. إذن لابد من وجود الأصل الإيمانى فى قلب الإنسان أولا حتى يكون مهيئا لأن يخاطب بإفعل ولا تفعل. ولذلك السيدة عائشة رضى الله عنها أشارت إلى هذا المعنى حينما قالت معللة ترتيب نزول سور القرآن وما فيها من معانى, قالت كان أول ما نزل آيات فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس للإسلام – أى رجعوا إليه – نزل تحريم الزنا وتحريم الخمر. ثم تقول فلو كان أول ما نزل لا تشربوا الخمر كأول أمر مباشرة لقالوا لا تركنا الخمر أبدا.. ولو كان أول ما نزل لا تزنوا لقالوا لا تركنا الزنا أبدا. تقول لقد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب – كان سنها صغير – بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده – أى فى المدينة – بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها.
فهى تبين لنا أن أول ما نزل فيه التذكير بعظمة الله سبحانه وتعالى وثوابه وعقابه, ترغيب فى رضوان الله والجنة وتحذير من عذاب الله تعالى والنار. حتى إذا تأثر الناس بهذه المعانى وثاب الناس إلى الإسلام – أى رجعوا – رغم أنهم لم يكونوا على الإيمان قط لكن لأن الإيمان أصلا فطرة فى الإنسان..فكل مولود يولد على الفطرة فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.
فالأصل فى الإنسان أنه يولد على الإيمان وعلى الإسلام ثم يعرض له عارض الشرك والمخالفة فإذا خوطب بخطاب الإيمان وعاد كان هذا رجوع وعودة إلى الدين. فقالت لو كان أول ما خوطب به هو إفعل ولا تفعل وليس فى قلوبهم هذا الإيمان..هذه التقوى..هذه الطاعة لله تبارك وتعالى.. هذا الإحساس بعظمة الله, حينئذ لم يكن هناك ثمّ إستجابة.
ولذلك كان حتى المشركين على دراية بهذا المعنى.
الأعشى – الشاعر الجاهلى – أراد أن يسلم وكان كبيرا مسنا فخرج متوجها إلى المدينة لكى يسلم فعرض له رجالات من قريش, مر على مكة فعرضوا له, فقالوا له إن محمدا صلى الله عليه وسلم يحرم الزنا فقال والله هذا أمر مالى فيه أرب – فقد كان شيخا كبيرا – فقالوا له ولكنه يحرم الخمر فقال فأما هذه فلا. فقال أنا سأعود وأشرب الخمر لمدة عام حتى أرتوى منه وآتيه العام القادم فأسلم. فرجع فمات ولم يأت عليه بعد ذلك عام. إذن المدخل الذى دخلوا منه لكى يحذروه وينفروه من الدين انه يقول أن الزنا حرام والخمر حرام وهذا مالا تطيقه ولأن هو ليس لديه هذا الأصل الإيمانى الذى ابتناه الله عز وجل فى قلوب المؤمنين فحينئذ آثر شرب الخمر على ما فيها من ضرر على الإيمان وعلى طاعة الله تبارك وتعالى. إذن فالأصل الذى بنى عليه الله سبحانه وتعالى خطاب الإيمان أوخطاب الأمر والنهى هو بناء أصل الإيمان أولا فى القلب ثم يترتب على ذلك آثاره من الإيمان بالله تبارك وتعالى. والله سبحانه وتعالى قال فى سورة النساء مخاطبا المؤمنين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ.
فالله سبحانه وتعالى ليس فقط يخاطب الناس أولاً بالإيمان ثم يخاطبهم بعد ذلك بآثار الإيمان من طاعة الله التى هى الخير فى الدنيا والآخرة, بل يخاطب المؤمنين أيضاً بخطاب تجديد الإيمان.
هم أصلا مؤمنون والله وصفهم بأنهم مؤمنون لكن هذا الإيمان يحتاج إلى تجديد..الإيمان يحتاج إلى زيادة لأنه يزيد وينقص فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ولذلك الإنسان دائما يحتاج إلى تجديد معانى الإيمان, يحتاج إلى تثبيت معانى الإيمان فى القلب لكى يبتنى عليها بنيان الطاعة والتقوى لله سبحانه وتعالى. النبى صلى الله عليه وسلم بيّن هذا المعنى فى حديث بن عمر عند الطبرانى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إن الإيمان ليخلق – أى يبلى ويفنى – فى جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان فى قلوبكم. الإيمان يخلق أى يمحى ويدرس ويضعف مع الوقت فى إنخراط الإنسان فى الحياة وإنشغالاته كما يخلق الثوب, كما أن الثوب الجديد مع كثرة الإستعمال وكثرة الغسل بالمساحيق يبدأ فى أن يبهت وتضيع ألوانه فيحتاج إلى تجديد – طبعا الثوب يلقى به – لكن الإيمان سيتجدد. فالنبى صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى أصل أصيل من الأصول التى تجدد الإيمان فى القلب وهو الدعاء فقال فاسألوا الله أى أن على الإنسان أن يدعو الله دائما أن يثبت فى قلبه معانى الإيمان.. إن يجدد الإيمان فى القلب. فمع كثرة دعاء الإنسان لله سبحانه وتعالى, مع تدبر الإنسان لكتاب الله الذى مذكور فيه معانى الإيمان ومعانى التعظيم لله سبحانه وتعالى..
معانى تكبير الله واستشعار فضل الله سبحانه وتعالى.. نعمة الله تبارك وتعالى, فمع ذلك ومع كثرة الدعاء لله سبحانه وتعالى أن يجدد معانى الإيمان فى قلبه حينئذ يستقر بنيان الإيمان وحينئذ على هذا البنيان تأتى معانى الطاعة والإمتثال لأوامر الله التى تنبنى على قناعة كاملة من الإنسان بأن هذا هوالخير له فى الدنيا والآخرة مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم