إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد
لازلنا مع ذكر خير البقاع، مع ذكر أحب البلاد إلى الله مع ذكر بيوت الله عز وجل ، نعود اليوم إلى الوراء قليلاً لنقف مع ثلاث كلمات هذه الكلمات الثلاث جاءت في ضمن خطاب كان له عظيم الوقع على الناس في هذه المحلة التي نسكن فيها حيث استقبلوه بالبشر والترحاب على وجازة هذه الكلمات، هذه الكلمات التي سميت بخطاب التنحي، نحن نقف اليوم مع ثانيتين فقط من ثواني هذا الخطاب الذي بلغ مقدار زمانه ثلاث وثلاثون ثانية وطبعاً سيتجاوز حديثنا ذكر الرجل المغضب الذي كان يقف وراء الرجل الحزين، ولكن سنقف مع هذه الكلمات الثلاث ” والله الموفق والمستعان ” ولنا مع هذه الكلمات الثلاث بعض وقفات.
أما الأولى فمع عظمة الله تبارك وتعالى وأنه سبحانه القاهر فوق عباده وأنه لابد أن تخضع له كل الرقاب وتلهج بذكره كل الألسن، ألسن الأبرار والفجّار على حدٍّ سواء، ألسن الأتقياء والأشقياء على حدٍّ سواء، العباد كل العباد لابد أن تعنو وجوههم، تخضع رقابهم، تذلُّ ألسنتهم لعظمة الباري تبارك وتعالى فينطقون جميعاً بذكر الله وتعظيمه، والله الموفق والمستعان.
قال تعالى أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ العباد كل العباد، كل مخلوقات الله تبارك وتعالى لابد أن تخضع وأن تذلّ وأن تنعو للحي القيوم تبارك وتعالى إن لم يكن طوعاً فإنه يكون كرها، قال تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ
ذكر الله تبارك وتعالى رجلا، فذكر من كلام هذا الرجل قوله يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ثم سكت زماناً ثم ذكر الله عز وجل من قوله ما هو أفظع وأشنع قال فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى لكن لم تكن هذه الكلمات هي آخر كلماته بل قال كما أخبر الله تبارك وتعالى وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ – قال – آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولكن آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ قال الله تبارك وتعالى وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وقال تعالى في ذكر أهل النار قَالُوا رَبَّنَا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ – أي في الدينا – مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ
وذكر الله تبارك وتعالى عن الشيطان أنه قال رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ربِّ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَهذا هو أول أمرنا بيان عظمة الله تبارك وتعالى وأن كل عبدٍ لابد أن يخضع وأن يذلّ لسلطان الباري تبارك وتعالى ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ هذا هو الأول.
والثاني: أن الله تبارك وتعالى هو الموفِّق والمستعان وليس هو الموفَّق والمستعان،، الموفَّق هذا اسم مفعول الذي يقع عليه التوفيق، أي الذي يمدُّ بأسباب الهداية والرشاد والتوفيق، وحاشا لله عز وجل أن يكون موفَقاً، بل الله عز وجل هو وليّ التوفيق، الله عز وجل هو الموفِق أي الذي يمدَّ عباده المؤمنين والصالحين، والطائعين بأسباب التوفيق، لا يقع التوفيق على الله تبارك وتعالى وحاشا، وهذه وقفتنا الثانية، أهمية وثمرة العلم بالله تبارك وتعالى التي توجب تعظيمه وأن آفة الآفات وأعظم الأدواء التي تشقي العبد في الدنيا والآخرة أن يكون جاهلاً بالله جاهلاً بعظمة الله تبارك وتعالى حتى لا يستطيع أن يفرّق بين الموفِق والموفَق، فهو يتكلم بكلماتٍ لا يعي لها معنى، لو أدرك معنى هذه الكلمات، وأدرك حقيقة أن الله عز وجل هو الموفِق وأن الله عز وجل هو المستعان، لتبدّل الحال، ما أحوجنا جميعاً إلى أن نعي فقط هذه الكلمات الثلاث، أن الله تبارك وتعالى هو الموفِق والذي بيده التوفيق، وأن الله سبحانه وتعالى هو المستعان على كل أمرٍ من أمور الخير يجلبها، وعلى كل أمرٍ من أمور الشرّ يدفعها، على كل أمرٍ من أمور الطاعة يوفِق لها، وعلى كل أمرٍ من أمور المعصية يدرأها ويباعد عنها، هذه الكلمات الثلاث، الله تبارك وتعالى هو الموفِق وهو المستعان
فالإنسان إذا أنعم الله عز وجل عليه حقّاً فإنه يعطيه هذه المنّة العظيمة أن يكون عالماً بالله، عالماً بأمر الله تبارك وتعالى فيورثه ذلك خشية الله التي هي سعادة الدنيا والآخرة، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ولذلك جعل الله عز وجل علّة الشقاء وعلّة الفساد إنما هي جهل الإنسان بالله وسوء ظنّه بالله تبارك وتعالى .
قال عز وجل يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ قال الله تبارك وتعالى وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا كانوا يعملون أعمالاً من أعمال الشرّ والسوء كثيراً ويغفلون عن أن الله سبحانه وتعالى رقيبٌ مطّلعٌ عليهم، فلما وقفوا بين يديه تبارك وتعالى فأنكروا قبيح فعالهم، أنطق الله عز وجل جوارحهم بما كانوا يعملون من أعمال الشرّ والسوء فقالوا لجوارحهم مستنكرين هذا الذي وقع لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فعلّة هذا، علّة هذه الجرأة على الله، علّة عدم المبالاة بنظر الله إنما كانت أنهم ظنّوا أن الله عز وجل لا يعلم كثيراً مما يعملون وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْهذا هو بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ
قال تعالى وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ فالله سبحانه وتعالى وصف هاهنا المنافقين والمشركين بأنهم يظنون بالله ظنّ السوء، هذه الظنون السيئة وهذه التصورات السيئة التي وقعت في قلوبهم بشأن الباري تبارك وتعالى ، كانت هي علّة الشرّ والفساد وعلّة الشرك والنفاق، فإذاً أعظم المنن، وأعظم النعم، أن يمنّ الله عز وجل على العبد بأن يعرف ربه تبارك وتعالى ، فالوقفة الأولى كانت عن عظمة الله وخضوع العباد كل العباد لسلطان الله، والثانية أن علّة الفساد والشرّ هي جهل الإنسان بالله وسوء ظنّه به عز وجل .
وأما الثالثة وهي مقصود حديثنا فهي هاتين الكلمتين ” الموفِق والمستعان ” التوفيق من الله تبارك وتعالى وطلب العون من الله، وكاتب هذه الكلمات هو في الحقيقة يشهد له بالفقه حق الفقه، إذ قرن بين الموفق وبين المستعان، أن الله عز وجل هو الذي يوفق لكل خير، وهو الذي يدرء كل شرّ، ولا يستجلب توفيق الله إلا بأن يستعين الإنسان بالله، وأن يسأل ربه تبارك وتعالى أن يوفقه لكل خير.
فكان اقتران التوفيق بالإستعانة هو حقيقة تحقيق هذا التوفيق من الله عز وجل فالتوفيق هو أن يوفق الله الإنسان أو أن يرشد الله الإنسان لكل أمرٍ يجلب له الخير والهداية، أن يوفقه لطريق الحق والصواب، أن يوفقه لما يجلب له السعادة ويدفع عنه الشقاوة وأسبابها.
قال ابن القيم في بيان حقيقة التوفيق وكلمة التوفيق يقول: خرجت فوافقت فلاناً في الطريق معناها أنه لقيه وصادفه قدراً ومصادفة، أي أنه لا يبذل كبير جهدٍ في تحري هذا الأمر وتبيّنه بين الله سبحانه وتعالى ييسره ويسهله له، وكذلك في لغة العرب الوفيق هو الرفيق، وفي لغة العرب أيضاً: يقال وفِقَ أي: فهم.
فإذاً تجمع كلمة التوفيق ما بين الفهم وما بين الرفق، فحقيقة العبد الموفق الذي يجمع هاتين الصفتين، أن يكون من أهل الفهم والفقه فيبصر حقيقة الأمور، ويميز صحيحها من سقيمها وأن يوفقه الله عز وجل للرفق فإن الرفق ما كان في شيءٍ إلا زانه وما نُزع من شيءٍ إلا شانه، ومن أعطي الرفق فقد أعطي الخير كله.
فإذا كان العبد موفّقاً من الله، فهو الذي جمع بين فهم ورفق.
يقول ابن القيم: التوفيق ألا يكلك الله عز وجل إلى نفسك، والخزلان أن يكلك الله عز وجل إلى نفسه.
إذاً الله الموفق هذه حقيقة توفيق الله عز وجل للإنسان أن يكون في كلاءة الله عز وجل وحمايته وحفظه وحقيقة الخزلان الذي هو عكس التوفيق، أن يذر الله عز وجل العبد ونفسه، فهو الذي يدبّر لنفسه وهو الذي يختار ويقضي لنفسه فيكون في هذا بواره وهلاكه.
فحقيقة توفيق الله عز وجل للإنسان أن يكون محفوظاً من الله عز وجل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال الله تبارك وتعالى : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إلي عبدي بشيءٍ أحبُّ إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذيي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، هذا الإنسان الذي صار محبوباً لله، صار في كلاءة الله عز وجل وحياطته وحفظه فيسمع بسمع الله، يحفظ الله عز وجل له سمعه، يحفظ له بصره، يحفظ له جوارحه، فهذا هو حقيقة العبد الموفق المحبوب من الله عز وجل .
ولذا كان من تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات، في مستدرك الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: ما يمنعك أن تسمعي بما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت ” يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين “.
ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصحبت وإذا أمسيت ” يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ” مجرد ما الإنسان يطرف بعينه، النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه تبارك وتعالى ويوصي ابنته رضي الله عنها أن تسأل ربها تبارك وتعالى أن يديم عليها حفظه فلا يتركها لنفسها ولو لطرفة عين، ولو للحظةواحدة، ولو لثانية واحدة فإن الله عز وجل إذا رفع كلاءته عن العبد فإنه يهلك ويردى.
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوات المكروب أن يقول العبد، هذا الإنسان الذي يكون في كربٍ وفي شدة، يدعو ربه عز وجل بألا يكله إلى نفسه طرفة عين، كذلك أن الإنسان يدعو ربه عز وجل بأنه يرجو رحمته ويسأل ربه عز وجل ألا يكله إلى نفسه طرفة عين، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم يبيّن أن دعاء المكروب الذي ينقذ من القربة الذي ينجي من الكربات، أن يسأل الله عز وجل أن ينيله رحمته ” اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ” .
المكروب يسأل ربه عز وجل أن ينيله رحمته، وقرن ذلك ألا يكله لنفسه طرفة عين.
ولذلك روي كما عند الطبراني في سننه، وعند ابن عساكر في تاريخه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره أصحاب السير، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أصابه ما أصابه أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوٍ ملّكته أمري، إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي لكنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك “
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذاً فنحن جميعاً أحوج ما نكون إلى هاتين الكلمتين، نحن أحوج ما نكون إلى توفيق الله تبارك وتعالى ، إن العبد لا يحتاج إلى شيء ولا يفتقر إلى شيءٍ إذا كان موفّقاً من ربه تبارك وتعالى إذا كان مسدداً من الله، ولذلك علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّاً رضي الله عنه أن يقول: ” اللهم اهدني وسددني ” هذه هي حقيقة التوفيق، وفي رواية أنه قال ” اللهم إني أسألك الهداية والسداد ” ، الهداية أن تبصر حقيقة طريقك، أن تميّز بين الصواب والخطأ بين الحقِّ وبين الباطل، والسداد أن تلتزم هذا فعلاً، أن يعينك الله بعد الفهم على التزام ما قد فهمت، بعد الوعي على أن تستقيم على ما قد وعيت، لذلك كان من أعظم وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :قل آمنت بالله ثم استقم، هذا هو حقيقة الدين، أن يقول الإنسان آمنت بالله، يؤمن بالله ويعلم عظمة الله تبارك وتعالى ثمّ يستقيم على هذا الإيمان في حياته إلى أن يلقى الله تبارك وتعالى .
وأما الكلمة الثانية فهي كلمة المستعان، أن الله تبارك وتعالى هو الذي يملك أن يمد العبد بكل أسباب الخير الذي يحتاجه العبد في كل طرفة عين، وأنه لا توفيق للعبد إلا بعون الله تبارك وتعالى ولذلك كان من أعظم الكلمات التي أمرنا الله عز وجل بها إذا وقفنا بين يديه في كل ركعة من ركعات صلاتنا أن نقول مخاطبين إياه تبارك وتعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وقلنا مراراً في هذا المكان إن اقتران العبادة بالاستعانة أن الإنسان لا يقوى على أن يعبد الله إلا إذا أعانه الله تبارك وتعالى وقلنا قبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة عند مسلم أن الله تبارك وتعالى قال قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فحين أتى على هذه الآية قال هذه بيني وبين عبدي قسمين وشطرين قسم لله وهو حقه؛ أن نعبد الله تبارك وتعالى ، وقسمٌ للعبد وهو فضله تبارك وتعالى أن يعين العبد على العبادة إذا كان طالباً لها مريداً لتحصيلها وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
فالله عز وجل يعين من طلب وأراد طريق الله تبارك وتعالى قال الله عز وجل عن يعقوب عليه السلام لما أتاه بنوه يخبروه أن يوسف قد مات عليه السلام قال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ هو لا يستطيع ولا يطيق أن يتحمل وقع هذه الكلمات، أو يتحمل أثر هذه الكلمات أو يتحمل فقدان هذا الوليد الحبيب إلى قلبه عليه السلام إلا بأن ينزل عليه العون والتأييد والتثبيت من الله تبارك وتعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ هذه الأوصاف التي يطلقونها على الله تبارك وتعالى انتقاصاً لحقه، التي يطلقونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذيباً له ورمياً له بالجنون، ورمياً له بالكهانة والشعر والسحر، لا يستطيع قلبه الرقيق الطاهر صلى الله عليه وسلم أن يتحمّلها إلا إذا تغمده الله عز وجل بعونه وتأييده وتوفيقه، قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
إذا طلب الإنسان عون الله عز وجل فإن عون الله عز وجل قريب، في حادثة الإفك أن عائشة رضي الله عنها لما بلغها ما يقول الناس في عرضها جعلت تبكي أياماً وليالي متواصلة، لا يرقأ لها دمع ولا تجفّ لها عبرة، حتى أتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبيها رضي الله عنه فقال: يا عائشة إنه قد بلغني ما يقول الناس عنكِ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تبارك وتعالى وإن كنت ألممت بذنبٍ فاستغفر الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ” فلم تستطع عائشة أن تجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل على قلبها أن تكون محل شكٍ وريبة من صدقها ومن براءتها ومن طهارتها في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشارت إلى أبيها قالت: يا أبت أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبوبكر: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتفتت إلى أمها فقالت: يا أمِ أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قولي شيئاً – قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة: والله إن الله يعلم أني بريئة وإن قلت لكم أني بريئة فإنكم لا تصدقوني – وقع في قلوبكم الشك والريبة من كلام الناس الذي سمعتم – وإن قلت لكم أني فعلت فإنكم تصدقونني ثم قالت: والله ما حالي وحالكم إلا كما قال أبو يوسف – أي يعقوب عليه السلام – ونسيت اسمه من وقع الهم والحزن على قلبها، إلا كما قال أبو يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ فلم تنتهي من هذه الكلمات إلا وأنزل الله عز وجل براءتها من فوق سبع سماوات، حينما ذكرت هذه الكلمات، حينما ذكرت استعانتها بالله عز وجل وأنها ليس لها معين وليس لها ناصر ولن يبرئها إلا هو تبارك وتعالى إذ أن الناس جميعاً حتى أبيها وحتى أمها وحتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما لم يقفوا معها موقف الناصر والمعين كما أحبت، والعجب أنها قالت أنها كانت أحقر في نفسها من أن ينزل الله عز وجل فيها كلاماً يتلى، يعني هي أقل وأحقر – هي تقول – من أن الله سبحانه وتعالى ينزّل وحياً يذكر فيه براءتها، وإنما كانت تحب وتريد وترجو وتأمل أن الله تبارك وتعالى يُري النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا فيها براءتها، فما استتمت هذه الكلمات فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ حتى أنزل الله تبارك وتعالى إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ أي الكذب عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
يقول أبو موسى رضي الله عنه والحديث في البخاري وفي مسلم أيضاً أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط أي في بستان من بساتين المدينة فاستفتح رجل أي طلب أن يُؤذن له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى افتح له، أو ائذن وبشّره بالجنّة، قال أبو موسى: فخرجت فإذا أبوبكرٍ رضي الله عنه فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله عز وجل على أن بشّره بالجنّة ثم استفتح مستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: افتح له أو ائذن له وبشّره بالجنّة، قال: فخرجت فإذا عمر رضي الله عنه فأخبرته بالذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله عز وجل .
ثم استفتح مستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم ائذن له وبشّره بالجنّة على بلوى تصيبه، قال: فخرجت فإذا عثمان رضي الله عنه فأخبرته بالذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد لله والله المستعان، وفي رواية الإمام أحمد أنه قال: الله المستعان اللهم صبراً وعلى الله التكلان،الله المستعان اللهم صبراً وعلى الله التكلان.
وإذاً فنحن جميعاً أحوج ما نكون إلى هاتين الكلمتين ” اللهم الموفق والمستعان ” نحن أحوج ما نكون إلى توفيق الله، نحن أحوج ما نكون إلى أن نطلب العون من الله تبارك وتعالى وهذا قريبٌ قريب، ليس بيننا وبين توفيق الله، ليس بيننا وبين عون الله عز وجل إلا أن نطلب هذا من الله، ليس هذا شاقاً أو بعيداً أو صعباً،وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ليس بيننا وبين توفيق الله، ليس بيننا وبين رضوان الله ليس بيننا وبين رحمة الله إلا أن نطلب من الله عز وجل الرحمة والرضوان ليس بيننا وبينه إلا ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: يا معاذ والله إني لأحبك، فقال معاذ: وإني والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، فقال صلى الله عليه وسلم يا معاذ لا تدعنّ – لا تترك – أن تقول في كل دبر صلاة – في نهاية صلاتك – اللهم أعني – أعني – على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فلا ذكر ولا شكر ولا عبادة إلا بعون الله عز وجل وتوفيقه وتيسيره ” لا تدعنّ أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
فنحن أحوج ما نكون جميعاً كباراً وصغاراً رجالاً ونساءً حاكمين ومحكومين إلى هاتين الكلمتين ” اللهم الموفق والمستعان ” ، فما علاقة الموفق والمستعان بما قلناه في أول الخطبة من ذكر المساجد وأنها أحب البقاع إلى الله وأنها أحب بلاد الله إلى الله.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا علماً نافعاً. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ويقيناً صادقاً.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وأعنا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا.
اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شكارين، اللهم اجعلنا لك ذكارين، اللهم اجعلنا لك رهابين، اللهم اجعلنا لك مطواعين، اللهم اجعلنا لك مخبتين، اللهم اجعلنا إليك أواهين منيبين.
اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم انا نسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك، وان تغفر لنا وترحمنا.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.