بسم الله الرحمن الرحيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
استمعنا فى الركعة الثانية إلى قول الله تبارك وتعالى قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
الله سبحانه وتعالى جعل من دلائل وحدانيته وعظمته سبحانه وتعالى أنه يهدى.. قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ويرشد إلى طريق الهداية؟ ثم أجاب سبحانه وتعالى قُلِ اللَّهُ يَهْدِي فنفى عنهم هذا الوصف وأثبته له وحده سبحانه وتعالى. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي أى لا يهتدي إِلَّا أَنْ يُهْدَى.
فالله سبحانه وتعالى تكفل ببيان طريق الهداية بحيث لا تعزّ على طالب ولا تصرف عن متلمس لهذه الهداية وهذا التوفيق من الله. وهذه الهداية نوعان: هداية إرشاد، وهدايه توفيق.
فالله سبحانه وتعالى يهدى السبيل ويبينه، ويوضحه، ثم يوفق العبد إلى أن يصل إلى هذه الهداية إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى.
فى صحيح مسلم قصة من قصص هذه الهداية تعد فى الحقيقة قصة من القصص العديدة التى تحتاج إلى شىء من التأمل. عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما عن رجل إسمه ضماد الأزدى، قال إن ضمادا قدم وكان من أزد شنوءة – قبيلة فى اليمن – فسمع سفهاء مكة يقولون إن محمدا مجنون صلى الله عليه وسلم وكان ” الأزدى؟ ” يرقى من مسّ الريح – الريح يقصد بها مسّ الجن – من تلبّسه عفريت حاجة يقرأ عليه لعل الله عز وجل يشفيه.. فكان هذا من الأمور التى يفعلها وكان الله عز وجل يجرى علي يديه الشفاء.
فلما سمع السفهاء يقولون إن النبى صلى الله عليه وسلم مجنون أشفق عليه وأراد أن يعينه على الشفاء من الداء الذى به فقال يا محمد صلى الله عليه وسلم إنى أرقى من هذه الريح وإن الله تعالى يشفى على يدىّ من شاء فهل لك – أى هل تحب أن أرقيك -؟ فالنبى صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد إن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. أمّا بعد.. “
هذه كانت مقدمة وسيتكلم بعدها النبى صلى الله عليه وسلم فقال له الرجل: أعد علىّ هذه الكلمات فأعاد النبى – صلى الله عليه وسلم نفس الكلمات مرة ثانية. إلى أن وصل إلى كلمة ” أمّا بعد ” فسأله الرجل أن يعيدها مرة أخرى فأعاد النبى صلى الله عليه وسلم نفس الكلمات ثلاث مرات.
فقال الرجل ” لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فلم أسمع مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر – وفى روايه قاموس البحر – ” – يقصد أن تلك الكلمات بلغت من أعماق الفصاحة والبلاغة والقوة ما يصل بالمتعمق ألى أقصى عمق البحر أو المحيط – إشارة إلى المكان الذى يوجد به من الدرر واللآلىء ما لا يقدر بمال. فهذه الكلمات عظيمة بليغة فصيحة ليس لها مثال مما سمعه.ثم قال ” أبسط يدك وبايعنى ” قال فبايعه. فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ” وعلى قومك ” أى ستدعوهم أيضا للإسلام؟ قال الرجل ” وعلى قومى ” . كده خلص الحديث.
المشكلة بقا، الأمر الأول.. نحن كثيراً ما نسمع هذه الكلمات فى كل خطبة جمعة أو عند استفتاح الكلام ولكن الرجل عندما سمع هذا الكلام مجردا بدون أن يسمع بقيته أعتبر أن هذا الكلام دلالة على العقل وعلى الصلاح والصدق.
أول حاجة النبى صلى الله عليه وسلم لم ينشغل بأن يدافع أو ينافح عن نفسه بما يقوله الناس عنه أنه مجنون أو غير ذلك وإنما توجه مباشرة لدعوة هذا الرجل وأن يكلمه عن الإسلام فاستفتح كلماته بذكر الله تبارك وتعالى وحمد الله عز وجل وطلب العون والتوفيق منه ورد الهداية إلى الله تبارك وتعالى – من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ثم الشهادة لله تبارك وتعالى بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة. فكانت هذه الكلمات كفيلة بأن تفهم هذا الشخص بأحقيّة الحق وبصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم. فإذن الهداية قريبة من كل من يطلبها ودلائلها كثيرة متاحة للكافة ولا يطلب من الشخص إلا أن يكون بالفعل صادقا فى إرادة الهداية. هذا الشخص – ضماد الأزدى – كان فيه كثير من الخير لأنه لما سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما إدعى هؤلاء فيه مسّ من الجنون أخذته الشفقة والرحمة وأراد أن يسدى له معروفا وأن يصنع له خيرا فكانت محبة الخير فى قلبه تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سببا فى أن يسّر الله عز وجل له سبيل الهداية بهذه الكلمات البسيطة.
الأمر الثانى… شىء من التفكر والتأمل.
الله سبحانه وتعالى قال أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ وقال تعالى وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ كلمة الصاحب هنا بمعنى الشخص الذى يعرفونه ويعرفهم فهو منهم يعيش بينهم ويعرفون صفاته يعرفون أحواله التى تقطع وتجزم بأنه صادق لا يمكن إن يكون ممن يفترى على الله عز وجل الكذب. ولذلك عبد الله بن سلام – رضى الله عنه – ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة إنجفل الناس إليه – أى أسرعوا لكى ينظروا إليه – فكنت فيمن إنجفل إليه. وعبد الله بن سلام كان عالما وحبرا من أحبار اليهود ممن عندهم علم بالكتاب وبأخبار المرسلين وبأوصافهم.
يقول فكنت فيمن إنجفل فلما رأيته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، أن هذا الوجه لا يمكن إن يكون صاحبه ممن يفترى على الله الكذب، ليس من الكهنة أو السحرة أو الدجاجلة بل إن هذا الوجه عليه سيما الصلاح والبر والنور والإشراق وأنه بمجرد أن رآه أيقن أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون كاذبا، وإن لم يكن كذلك فهو إذن نبى رسول، وسمعته يقول أيها الناس أطعموا الطعام.. وصلوا الأرحام.. وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام. ولذلك عبد الله بن رواحه وقيل حسان بن ثابت قال فى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لو لم تكن فيه آيات مبيّنة كانت بديهته – أى شكله – يأتيك بالخبر
أى أنه لو لم يكن لديه آيات القرآن المنزلة من الله تبارك وتعالى أو دلائل النبوة الإعجازية الكثيرة التى أولاه الله عز وجل إياها، لكان مجرد نظرك إليه كفيل بأن يأتيك بالخبر على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. يبقى إذن يمكننا أن نقول أن الهداية من الله وهى نعمة عظيمة من الله تبارك وتعالى، لا يهدى إلى الحق إلا الله بل إن الله سبحانه وتعالى أوجب هذا على نفسه فقال إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى.
ويجعل؟ الله سبحانه وتعالى للهداية أسبابا كثيرة ربما لا يأتى عليها العد أو الحصر وهذه الأسباب الكثيرة متاحة لكل شخص مريد للهداية.
كان هناك شخص غربى وكان مصابا بحالة من الضيق والإكتئاب تعتريه بشكل مفاجىء. وكان إذا أصابته هذه الحالة لم يخلص منها ولم تنفك عنه إلا إذا وضع جبهته على الأرض على هيئة السجود كما يسجد أهل الإسلام. فإذا فعل هذا شعر بشىء من الهدوء والراحة ويزول عنه شعوره بالضيق والغم والكآبة. فمر يوما فى طريق من الطرقات فوجد رجلا فى حديقة من الحدائق وهو يصلى فوجد هذا الرجل ساجداً، فسأل عنه ماذا يفعل فقالوا هذا مسلم يصلى، فلما رأى هذه الحال وهى حال السجود التى وافقت الحال التى يشعر معها بالسكون. يشعر معها بالهدوء. يشعر معها بزوال الكآبة حينئذ كان هذا المشهد فقط كفيلاً بأن دخل فى الدين فحينما سأل عن الرجل وقالوا إنه مسلم فسأل عن الإسلام فكأنه وجد ضالته فى هذا الحال وفى هذه الصورة التى هى صورة السجود والخضوع لله تبارك وتعالى.
صور من صور كثيرة كلها تشى بهذا الأصل، بأن الله سبحانه وتعالى لا يضن بالهداية على أى إنسان مريد لهذه الهداية وأن أسباب هذه الهداية لا تحصى وأن الله سبحانه وتعالى يسوق للإنسان الذى يريد الهداية أسبابا كثيرة عديدة لكى توصله إلى الله تبارك وتعالى قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.