الحمد لله الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيدا، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ثم أما بعد:
إن الإنسان أي إنسان هو مولع باستشراف المستقبل وبالتفكر فيما يخبئه له القدر في مستقبل الأيام ومن أكثر الأمور التي يشتغل بها الإنسان فيما يتعلق بمستقبل أيامه ما له تعلق بحياته واستقراره وأمنه فهو دائم التفكير والانشغال بما يتعلق بهذا المستقبل، ونحن المسلمون، ونحن فقط من نملك تصوراً عن هذا المستقبل، تصوراً مستمدٍ من وحي أوحاه الله عز وجل إلينا عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم وليس غيرنا يشاركنا في هذا التصور الصحيح الواضح عن المستقبل، لأنهم لا يملكون نفس الأداة ولا نفس الوسيلة التي منّ الله عز وجل علينا بها،قال سبحانه وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه، يقول مبيناً الخطوط العريضة التي سيسير عليها مستقبل هذه الأمة السياسي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منتهى أجل هذه الأمة يقول صلى الله عليه وسلم ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله عز وجل إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله عز وجل إذا شاء أن يرفعها ثم يكون ملكاً عاضاً – وفي رواية – ٍ ملكاً عضوضاً، فيكون فيكم ما شاء الله عز وجل أن يكون، ثم يرفعها الله عز وجل إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكاً جبرياً فيكون فيكم ما شاء الله عز وجل أن يكون،ثم يرفعه الله عز وجل إذا شاء أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيبيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجري أمور هذه الأمة وكيف يتطور تاريخها السياسي عبر قرون متطاولة، فيقول صلى الله عليه وسلم، أن أول أمر هذه الأمة يكون نبوةً ووحياً من الله عز وجل فيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله عز وجل ومنّته ورحمته على هذه الأمة هو أول قائد يقودها بنور الله عز وجل وبكتاب الله عز وجل، يسوس دنياها بدين ربها، ويسير فيها كما أمر الله عز وجل ثمَّ يشاء الله عز وجل أن يقبض إليه نبيه صلى الله عليه وسلم فيكون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافةً راشدة سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافة على منهاج النبوة.
فإذاً هذه النبوة التي منّ الله عز وجل علينا بها لها منهاج لها طريق لها أصول لها قواعد، لها مبادئ تتبع وتسلك، لكي تسير هذه الأمة على الصورة التي تحقق لها سعادة الدنيا والآخرة، ( فتكون فيكم ) هذه الخلافة، وكلمة ” خلافة ” إنما أطلقت لأن الخليفة يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياسة الأمة بالدين ولذلك كان العلماء والخلفاء كليهما هم المنوط بهم أمر هذه الأمة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فأولي الأمر هم العلماء لأنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم ورثة الأنبياء وعلى هديهم وعلى وصايتهم وعلى توجيههم يسير الخلفاء.
لكن الخلفاء الراشدين هم أئمة هذه الأمة علماً وفهماً كان الأمران يجتمعان فيهما، أمر العلم، وأمر السياسة والخلافة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر اختلاف الناس، وقال في حديث العرباض بن سارية: ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )
( ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون فيكم ما شاء الله عز وجل أن تكون ) ونحن نلاحظ كلما نقلنا من حالٍ إلى حال كلما نقلنا من مرحلة إلى مرحلة أكدّ وذكّر على إن هذا كله إنما يكون بتقدير الله عز وجل، فالأمر كله لله عز وجل فالأمر كله لله عز وجل لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ الأمر كله لله، والملك لله عز وجل يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد، ( ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون فيكم ما شاء الله عز وجل أن تكون، ثم يرفعها الله عز وجل إذا شاء أن يرفعها ثم يكون ملكاً عاضّا )، هذا هو أول خروج عن منهاج النبوة الذي رسمه وبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتوارثون الملك بينهم وهذا من بداية خلافة بني أمية لإنتهاء خلافة بني عثمان والمسماة بالخلافة العثمانية، هؤلاء كان الملك عندهم عاضّاً أي إنهم يعضون على الملك بالنواجذ يتوارثونه بينهم ويمنعون غيرهم من أن يشاركهم فيه ويتغلّبون على الناس، لكنهم كانوا ملتزمين بأحكام الدين الإسلامي في العموم وفي الجملة، محافظين على وحدة الأمة، محافظين على اسم الخلافة، مقيمون لكتاب الله عز وجل، يحمون ثغور المسلمين ويقيمون الجهاد، وينشرون دين الله عز وجل.
فبقيت هذه الخلافة أو هذا الملك العاضّ على هذا الزمان الطويل، ثم حدث بعد ذلك بعد أن سقطت الخلافة وأصبحت دولاً قطرية وقسّمت بلاد المسلمين بفعل توجهات الدول الغربية أو الشرقية التي تسلطت سياسياً على هذا العالم الذي نعيشه، قسّمت إلى دول قطرية وأصبح الملك فيها جبرياً، جبرياً: أي يقوم على القهر والجبروت والعسف والعنت وظلم عباد الله.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم إن هذا الملك الجبري سوف يمتدّ حتى تعود خلافة على منهاج النبوة، يقول صلى الله عليه وسلم: ثم يكون ملكاً جبرياً فيكون فيكم ما شاء الله عز وجل أن يكون، ثم يرفعه الله عز وجل إذا شاء أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.
في سنن الدارمي عن أبي عبيدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملكٌ ورحمة، ثم ملك أعفر، ثم ملكٌ وجبرية يستحل فيها الخمر والحرير.
في هذا الحديث قسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال هذه الأمة إلى مراحل أربعة، الأولى: النبوة مع الرحمة، الثانية: الملك مع الرحمة، هناك ملك لكن هناك رحمة بالخلق غالبة سائدة، ثم ملك أعفر، الأعفر قيل هو:المختلط الذي يختلط فيه الخير بالشر، والرحمة بالعذاب، العدل والقسط بالظلم والجور، أو قيل أعفر: الملك الذي يدار على قواعد وأصول السياسة والمكر والدهاء فيضعف فيه وازع الدين ويكون الملك على أصول السياسة التي تعارف عليها أهل السياسة، والتي اصطلحوا على تسميتها بالميكافيلية.
ثم يكون ملكٌ وجبرية أي أنه يحيدون حتى عن هذه القواعد السياسية ويحكمون الناس بقبضة حديدية؛ بالحديد والنار.
وفي حديث آخر في كتاب الفتن لنعيم بن حمّاد، عن عمر رضي الله عنه أن قال أن أول أمر هذه الأمة هو النبوة ثم خلافةٌ ورحمة، ثم ملكٌ ورحمة، ثم ملكٌ وجبرية.
هاهنا حال الملك العاضّ الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يخلو من الرحمة، كان لا يخلو من الإحسان إلى الناس، ثم حال إلى ملك جبري، وهذا هو الذي تعيشه هذه الأمة من حين أن سقطت الخلافة وهو يقوم أساساً على القهر والعسف والظلم، هذا الملك الجبري لن يزول كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأن تحلّ محلّه خلافة على منهاج النبوة، وإذاً فنحن لن نخرج من هذا الوضع الذي نحن فيه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إلا بأن تعود خلافة على منهاج النبوة، فأي حكم وسيط نتصوره بين هذا الحكم الإستبدادي وبين الحكم على منهاج النبوة لن يكون لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لن يكون، فالواجب علينا إذاً شرعاً والواقع كوناً وقدراً بتقدير الله عز وجل أن على أهل الإسلام إذا أرادوا أن يختصروا الزمن، إذا أرادوا أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، إذا أرادوا أن يسيروا على وفق أمر الله – سبحانه وتعالى – أن يسعوا إلى أن يعيدوها خلافة على منهاج النبوة، فأي طريق آخر، وأي دعوة أخرى سوف تنقلنا في مرحلتنا هذه من جبرية إلى جبرية لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا بديل عن الجبرية إلا خلافة على منهاج النبوة، فكل من دعا إلى أمر غير ما أمر به الله عز وجل، غير ما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كائنٌ واقع لا محالة، فهو يدعونا إلى جبرية مشابهة أو مقاربة أو مماثلة للجبرية التي تعيشها هذه الأمة، وهناك أمرٌ آخر يستفاد من هذا الحديث، أن هذا الملك العاضّ الذي كان فيه إقامة للدين وكان فيه رحمة، كان مرتبطاً بوحدة الأمة، أما هذا الملك الجبري فقد قام أساساً على تمزيق وحدة هذه الأمة إلى أقطار وأمصار متنازعة متقطعة، فاجتماع الأمة تبقى معه الرحمة من الله عز وجل فإذا تفرّقت وكانت شيعاً فحينئذٍ فهو العذاب قال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فوحدة الأمة واجتماعها هي علامة خيرها وطريقٌ إلى عودتها إلى ما أمر الله عز وجل به، قال تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وقال – سبحانه وتعالى – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
أمرٌ آخر لابد أن نستشعره وندركه من هذا الحديث الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو مقدار النعمة والمنّة التي أمتنّ الله عز وجل علينا بها ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه بعد هذا التبيان النبوي لكل أمرٍ نحتاج إلى تبيانه.
قال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائرٍ يحرك جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علماً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لقد تركتم على البيضاء ) الطريقة الواضحة النيّرة البيّنة ( ليلها كنهارها ) ليس فيها غبش ليس فيها ظلمة ليس فيها اختلاط ليس فيها اضطراب ( لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) لأن هذا الزائغ الحائد عن الطريق ليس له عذرٌ في حيدته عن الطريق، قال الله تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
قال ابن مسعود: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّاً مستقيماً وقال:هذا صراط الله، ثمّ خطّ عن يمينه ويساره خطوطاً ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
في صحيح مسلم في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه الطويل في ذكر حجّة الوداع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس يوم عرفة يعظهم وينصحهم ويذكّرهم، فكان في آخر ما قال ( وقد تركت فيكم ما لم تضلوا أبداً إن اعتصمتم به؛ كتاب الله وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون.
قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم اصبعه إلى السماء وجعل ينكتها إلى الناس ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد ربه عز وجل أنه قد بلّغنا كل ما نحتاج إلى تبيانه، كل ما نحتاج إليه لكي نحقق سعادتنا في أولانا وفي أخرانا، كذلك قال أبو بكر رضي الله عنه في ذكر خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي في يوم النحر، أنه وقف في الناس يكلمهم، فقال: أي يوم هذا، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس يوم النحر، قالوا: بلى، قال: فأي شهر هذا، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس ذا الحجة، قال: فأي بلدة هذه، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أيس البلدة الحرام، قال: فإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ثم قال مخاطباً الناس: ألا هلا قد بلّغت، قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم قال: أل فليبلغ الشاهد الغائب فرُبّ مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
قال ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع السترة التي بين حجرة عائشة رضي الله عنها وبين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى الناس ثمَّ رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم هل بلّغت، اللهم هل بلّغت، اللهم هل بلّغت.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً يناجي ربه عز وجل مستشعراً هذه الأمانة العظيمة التي ائتمنه الله عز وجل عليها، فيرفع عن كاهله هذه الأمانة ويذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم قد بيّن لنا كل شيءٍ، قال – سبحانه وتعالى – وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ففي كتاب الله وفي تبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاج إليه المسلمون، ولذلك كل من كان أكثر تمسكاً بكتاب الله، كل من كان أكثر فهماً لكتاب الله، كل من كان أكثر تدّبراً لكتاب الله فهو أولى بالفهم والعلم والهداية إلى الصراط المستقيم إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الموصوفون في كتاب الله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
في صحيح البخاري عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله قد جاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر، قال: نعم، قلت: فهل بعد هذا الشر من خير، قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه، قال: قومٌ يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنّتي تعرف منهم وتنكر، وفي روايةٍ: لا ترجع قلوب أقوام فينا لما كانت عليه، قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شرّ، قال: نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قال: فما تأمرني إن أدركني ذلك، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعضّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.
هذا الحديث إذا ضممناه إلى الحديث الأول، حديث حذيفة الذي ذكرناه، يبيّن لنا أن هناك ارتباط بين حال الفكر والعقيدة وحال الحكم والسياسة وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عمرو قال: لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة، أركان الإسلام وقواعده ودعائمه تهدم واحدة واحدة، كلما انتقضت عروة تشبّث الناس بالتي تليها، فأولهنّ نقضاً الحكم، وآخرهنّ نقضاً الصلاة.
فهاهنا يبدو لنا الارتباط يبن عالم الفكر والمعتقد وعالم الحكم والسياسة ففي هذا الحديث بيّن صلى الله عليه وسلم أن أول أمر هذه الأمة هو خير لا دخن فيه، حق واضح بيّن ليس فيه التباس وليس فيه اختلاط، يقابله في المقابل الخلافة على منهاج النبوة، ثم حدوث فتنة ويعود الخير مرة أخرى لكنه لا يعود كما كان الأمر الأول، يعود فيه دخن، فيه التباس فيه اضطراب، فيه اختلاط الحق بالباطل، السنّة بالبدعة، الحق يكون جليّاً تارة، يكون خفيّاً تارة، تسمع أقواماً يتكلمون في الدين تعرف أشياء وتنكر أشياء، هذه أشياء تعرفها موافقة لما في كتاب الله لما في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول هذه جملة هذا خطأ هذا مخالف للصواب، فيقابل هذا في الحكم وفي السياسة دولة الملك العاضّ التي يختلط فيها أيضاً كما قلنا العدل بالظلم والخير بالشرّ.
فإذاً بحسب تصورات الناس ومعتقداتهم، بحسب إدراكهم للدين والتزامهم به بحسب ما يكون إنعكاس هذا على عالم الحكم والسياسة، ولذلك كان عبدالله بن المبارك رحمه الله يقول: رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخيرٌ لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوءٌ ورهبانها
قارن بين الفريقان، أحبار ورهبان السوء يلبسون الدين على الناس ويقارنهم حكام الجور الذين يسوسون الناس على خلاف الدين فهذا الحال الذي يلتبس فيه الخير بالشر والحق بالباطل يقارنه الملك العاضّ
ثم دعاة إلى أبواب جهنّم هؤلاء يقارنهم الملك الجبري، ولذلك لابد من عودة الخير الأول تصوراً وإدراكاً وعودة الدين إلى ما كان عليه لكي تعود مرة أخرى خلافة على منهاج النبوة، ولذلك كان من منّة الله عز وجل على هذه الأمة أنه يبعث لها على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها.
فإذاً إذا أردنا تغييراً حقيقياً، إذا أردنا عودة إلى منهاج النبوة فلابد أن يجدد الدين مرة أخرى وتجديده أن يعود جديداً كما كان، ليس تجديده هو تغييره وتبديله، هذا تغييرٌ وتحريف وتبديل.
أما التجديد هو إعادة الشيء الذي أصبح قديماً بالياً إعادته جديداً كما كان عليه أول مرة، هذا هو معنى التجديد، فالله عز وجل يبعث لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها فكراً وتصوراً واعتقاداً لكي يترتب أثر هذا على المجتمع سلوكاً وفهماً وتطبيقاً وعملاً، فتنصلح أمورهم وتعود إلى ما كانت عليه.
فإذاً إذا أردناه إصلاحاً حقيقياً فلابد من تجديد الدين وإعادة هذا الدين إلى ما كان عليه، لابد من الاستمساك بالأصل لابد من استهداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد من تلمّس مواطن الحق في كتاب الله وفي سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نحذر كل الحذر كما حذّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاة إلى أبواب جهنم يدعون الناس إلى البعد عن دين ربهم عز وجل يدعونهم إلى دعوات تبعدهم عن التزام دين الله عز وجل، المسلم كل مسلم يعلم علماً يقيناً، أنه لا سعادة ولا عدالة ولا أمن إلا في التزام أوامر الله عز وجل، إلا في التزام كتاب الله عز وجل، لماذا نطوّل على أنفسنا الطريق، الطريق واضح والحق أبلج بيّن أن السعادة حق السعادة في الدنيا وفي الآخرة، ولابد أن نذكّر ونؤكد على أمر الآخرة، ليست القضية قضية دنيوية فقط، نحن موقوفون غداً بين يدي الله عز وجل فسائلنا عن هذا الكتاب
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن أخوف ما أخاف عليه أن يقال لي يوم القيامة يا عويمر أعلمت أم جهلت، فإذا قلت قد علمت، فلا تبقى في كتاب الله عز وجل آية إلا أخذت بفريضتها – تطالبه بحقها – تقول الآمرة هل ائتمرت وتقول الزاجرة هل انزجرت.
نحن موقوفون غداً بين يدي الله فمسائلنا عن هذا الكتاب ومسائلنا عن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فسعادة الدارين في الدنيا والآخرة فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى فلابد أن نحذر هؤلاء الدعاة إلى أبواب جهنم كما حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا إذا وجدنا هؤلاء الدعاة الذين يدعوننا إلى غير كتاب الله، يدعوننا إلى غير دين الله عز وجل ن نلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم يكن لهم إمام ولهم جماعة، أي أناس يجتمعون على حق، يدعون إلى حق علينا أن نلزم غرز هؤلاء لكي نسلم من هؤلاء الدعاة إلى أبواب جهنم.
اللهم أرنا الحق حقً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
متعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا. ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لايخافك ولا يرحمنا ولا تجعل إلى النار مصيرنا.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين غير ضالين ولا مضلين سلماً لأولياءك حرباً لأعدائك ، نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من خالفك.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.