الحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وسابغ آلائه، وأشهد آن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا رب غيره ولا معبود بحق سواه وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أكرم نبيٍ وأطهر قلبٍ وأزكاه، – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتّبع هديه واهتدى بهداه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد: حديثنا اليوم حديث الشجر.
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
هذه الشجرة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه حولها تمحورت وسوسة الشيطان في ظلّ هذه الشجرة وفي ظلّ ثمارها، تمثّلت أشواق العبد إلى الدنيا بكل تمثّلاتها، تجمّعت في هذه الشجرة، شجرة المعصية كل آمال العبد وكل طموحاته في هذه الحياة الدنيا، شجرة الخلد وملكٍ لا يبلى، مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ وهو حديث خفيٌّ يبثّ في قلب العبد، وخواطر وهواجس تجوب في نفسه وتتحرك في وجدانه فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لعلّة خبيثة في نفسه، أخبث من هذه الشجرة التي يدعوهم إليها لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا لأجل الفضيحة ولأجل الخروج من ستر الله عز وجل ومن رحمته ومن كنف حفظه ورعايته وقال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وأضاف إلى هذا وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَظهر لهما بمظهر المحب الناصح المريد للخير له ولزوجه وحينئذٍ ذلّ الإنسان، وحينئذٍ وقع في معصية الرحمن تبارك وتعالى، وحينئذٍ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وجاءهما النداء الإلهي العلوي معاتباً إياهما على طاعة الشيطان ومعصية الرحمن والتصديق بتسويله ووسوسته وتسويله أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ.
هذه الشجرة، شجرة المعصية شجرة تعلق القلب بالدنيا، شجرة سوء الظن بالله، شجرة نسيان الآخرة ونسيان اليوم الموعود الذي يقف فيه العبد بين يدي الله عز وجل، نسيان النعيم الدائم السرمدي في رضوان الله وفي الجنة الذي هو الخلود الحقيقي، وفي المقابل نسيان ما توعّد الله عز وجل به الظالمين والخارجين عن طريقه والمتنكبين لسبيله من العذاب الأليم في الآخرة.
وإذاً فهذه الشجرة إنما تمثل التعلق بالدنيا ونسيان الآخرة، هذه الثمار اليانعة التي تفتن الإنسان هي التي تنسيه وعد الله عز وجل إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
الله عز وجل يذكّرنا بهذه الكلمات إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ويحذّرنا من أن نغترّ بأحد أمرين هما كما ذكر في قصّة آدم عليه السلام مجتمعين غير مفترقين، الغرور بالدنيا، هذا هو ميل الإنسان وتغرير الشيطان له، وهو الذي يقوده إلى نسيان الآخرة وإلى التعلق بالدنيا، فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ
تقيء الأرض أفلاذ أكبادها أمثال الأصطوان، في أخريات أيام هذه الدنيا، تقيء أي تخرج الأرض أفلاذ أكبادها من الكنوز التي احتوت عليها واحتوى عليها باطنها أمثال الأصطوان: القطع الكبيرة من الذهب والفضة والجوهر مما يتقاتل ويتصارع عليه الناس، فيجئ القاتل فيشير إلى هذا ويقول: في هذا قتلت، ويجئ القاطع، ويقول: في هذا قطعت رحمي، ثم يتركونه ولا يأخذون منه شيء.
هذه الشجرة إنما تقود أهلها إلى شجرة أخرى، أو هي ذات الشجرة تنتقل من مشهد إلى مشهد، ومن مكانٍ إلى مكان، وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ نسيان الآخرة والتعلق بالدنيا ويكأنها هي منتهى الأمر وغايته، لا يفكّر الإنسان أنه في يوم ما موقوفٌ بين يدي الله عز وجل، كل طموحه، كل تفكيره حول هذه الثمار اليانعة التي يراها بعينيه في هذه الشجرة الخبيثة التي يزينها له الشيطان، حتى أنه من شدّة نسيانه للآخرة ومدافعته لها يصل إلى حد إنكارها وهي التشكيك فيها كما قال الله عز وجل وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ليس هناك نعمة أعظم من هذه النعمة، هذه النعمة إنما تستوجب من العبد شكراً وإخباتاً وطاعةً وعبادةً لواهب النعم ومسدي المنن سبحانه وتعالى لكنّ هذا لم يحدث، وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا استشعر قوته ونعمته وعظمته ونسي مسدي النعم سبحانه وتعالى فعاد على صاحبه الذي ينبغي أن تعود نعمته التي أنعم الله عز وجل عليه بها بالخير على صاحبه الذي هو صاحبه، لكنها عادة بالجبروت وبالطغيان وبالكبر والعلو إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ إنه ينبغي إن كان قارون من قوم موسى أن يعود بنعمته عليهم، أن يعود بالخير الذي امتنّ الله عز وجل عليه بها عليهم، إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ إن ظلمه لا يعود إلا على نفسه يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغو نفعي فتنفعوني إنما يظلم العبد نفسه وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا إذاً لشدة تعلقه بهذه الجنة، لشدة تعلقه بشجرها وأثمارها، هو يدافع في نفسه فكرة الآخرة مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا هو يريد ذلك فهو يغرس في قلبه هذه المعاني ويدفع عن نفسه فكرة الآخرة لكي لا تشوش عليه تمتعه بهذه النعمة الزائلة التي زينها له الشيطان أوّل مرة فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا وهذا عجبٌ من العجب، هو ينكر الآخرة ثم يعقّب على هذا مباشرة فيقول: وإن افترضنا جدلّاً أن هناك آخرة، فالذي آتاني هذه الجنّة في الدنيا، قطعاً سوف يعطيني أفضل منها في الآخرة، وهو يكفر بنعمة الله، وهو يشكك في لقاء الله، لأنه ظنّ أن هذه النعمة الدنيوية التي هي ابتلاءٌ وامتحانٌ واختبار إنما هي علامة المحبّة والإكرام، فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ هو ابتلاء فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ علامة الرضا وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ علامة السخط كلا ليس الأمر كما يظن هؤلاء، وإنما هذا ابتلاء وهذا ابتلاء، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ هكذا يؤول أمرهم بعد هذه الشجرة إلى هذه الشجرة الخبيثة القبيحة لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ شجرة خبيثة ذات شوك، تغصُّ بها حلوقهم، لكنّهم سوف يأكلون ويأكلون ويأكلون كما كانوا في الآولى يأكلون ويأكلون ويأكلون فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثم هي خصّة في حلوقهم فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ الماء المغلي الذي انتهى حرّه وغليانه، فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ مثل الإبل العطاش التي تشرب وتشرب وتشرب لكنها لا ترتوي وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ رحمة من الله عز وجل، هم يطلبون الآيات تلو الآيات، هذه الآيات إذا أتت ثم كفروا بها كان العذاب الأليم أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ الناس كل الناس في قبضة الله عز وجل وفي حبل سلطانه وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ الإسراء والمعراج إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا كانت الرؤيا وكان هذا الإسراء وكان هذا المعراج فتنىةً للكافرين وفتنة لكل مخاطب، هم لأنهم يكذبون رسولهم لما أخبرهم بهذه الآية زادهم هذا تكذيباً، رغم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن لهم تفاصيل بيت المقدس بكل جزئياته، لكنهم أصرّوا على تكذيبه، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ هم يقولون إن هذه النار التي أخبر الله عز وجل عنها وأن وقودها الناس والحجارة إنما تحرق كل شيء فكيف تبقى هذه الشجرة قائمة في وسط هذه النار المحرقة، انظر كيف تفتن هذه القلوب التي أعرضت عن الذكر الذي أنزله علّام الغيوب،كيف تكفر بربها، وكيف تنفي قدرته على أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ثم زادوا هذا شرّاً على شرّ حتى قال بعضهمك إن الزقوم بلغة ولسان أهل اليمن، انظر هم ينتقلون إلى اللسان وهذا المعنى الذي يعلمونه بمعنى الزقوم إلى معنى بعيد ليشجبوا على كلام الله، ” إن الزقوم بلغة اليمن هو التمر المعجون أو المخلوط بالزبد ” حتى كان أبوجهل عليه لعنة الله يقول للجارية: زقّمينا، ويقول: إن هذا ما يتوعدكم به محمد صلى الله عليه وسلم وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا
بَلْ عَجِبْتَ من تكذيبهم من إنكارهم للقاء الله عز وجل، وهم فوق ذلك وَيَسْخَرُونَ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ خاضعون ذليلون فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا يقول بعضهم لبعض إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ اليمين: طريق الخير طريق الإيمان طريق الحق، طريق الهداية يقطعون عليهم هذا الطريق إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ لا تعتذروا بأنّا كنا السبب في إضلالكم بل كنتم مريدين للشر، مريدين للفساد، متنكبين لطريق الحق، ولم نفعل معكم إلا أن دعوناكم فاستجبتم كما قال الشيطان في خطبته الخاتمة وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ شجرٌ في مقابل شجر، فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ هذا قبيل وهذا قبيل، هذا فريق وهذا فريق، هذا تنازع أهل النار، وهذا حديث أهل الجنة فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ – في الدنيا – يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ نقف بين يدي الله فيحاسب كلاً على عمله قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ يقول لأصحابه فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ بقايا الزيت المغلي إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ فهذه الشجرة التي ذكرنا إنما تقود أصحابها إلى هذه الشجرة التي هي شجرة الزقوم ليس في الآخرة فحسب إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
الله سبحانه وتعالى يذكر أصحاب هذه الجنّة وأصحاب هذا الشجر، وأصحاب هذا الثمر، كان أبوهم رجلاً صالحاً ينفق ويتصدق وكان قد عوّد فقيرهم ومسكينهم حين يأتي يوم الحصاد أن يأتوا ويجتمعوا فيأخذوا من خيرها ومن جزائها، فبعد أن ولىّ أبوهم رأوه ضعيفاً في عقله يضيّع أموالهم وثمارهم على من لا يستحق فأرادوا أن يجنوا ثمارهم بليل حتى إذا أصبح الصباح وجاء الفقير والمسكين لم يجد من ثمر هذه الجنة ولا ثمرة واحدة إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ لن يتركوا من ثمرها ثمرةً لفقير، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ هم يبيّتون شرّاً والله سبحانه وتعالى يجازيهم بفعلهم وتبييتهم ونيتهم فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ هي حصدت بالفعل فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ إذا أردتم القطف فهذا أوانه فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ يخفي بعضهم كلامه لئلا يسمعه غيرهم، والله عز وجل من فوق سبع سماوات يعلم سرّهم ونجواهم أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ أي قطعٍ وحصدٍ قَادِرِينَ هم يرون أنهم قادرون عليها حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا – هي في قبضتهم – أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ قطعاً هذه ليست جنّتهم التي ملؤها الثمار اليانعة، ثم داروا دورتهم فأيقنوا أن هذه هي جنّتهم إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ – أعقلهم وأعلمهم – أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ – أي في الدنيا – وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ – حيث الزقوم – لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فأي الرجلين كان أعقل، هل كان الأبُ أعقل من بنيه، أم كان هؤلاء الأولاد أعقل من أبيهم، هذا هو فيصل التفرقة في هذه القضية أيهما كان أعقل،كل فريقٍ من الفريقين يرى نفسه أعقل وأفهم وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ فأهل الإيمان ومعرفة الله والتعلّق بالله تبارك وتعالى ينظرون دائماً إلى رضوان الله وإلى الدار الآخرة، وأما هؤلاء الذين لا يرون إلا شجرة إبليس لا يرون إلا ثمارها التي تغشّي عقولهم إلى ثمارها التي تفتن أبصارهم يرون أنفسهم هم العقلاء ويرون هؤلاء الأولين هم السفهاء، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ فهذه الشجرة، شجرة معصية الله، شجرة نسيان الآخرة، شجرة تنكّب طريق الله، إنما تقود إلى هذا الحصاد الذي حصده أصحاب الجنّة في الدنيا قبل الآخرة، وتقود إلى شجرة الوقوم والعياذ بالله في الآخرة، وفي مقابل هذه الأشجار ذكر الله عز وجل أشجاراً أخرى لنا معها بإذن الله حديث.
ذكر سبحانه عن موسى عليه السلام كيف ناداه الله في البقعة المباركة من الشجرة وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وجمع سبحانه وتعالى هذه الشجرة بإزاءهذه الشجرة فقال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن
وشجرة أخرى ذكرها الغزالي في إحيائه،ذكر عابداً عبد الله عز وجل دهراً طويلاً، فأتاه قومٌ فقالوا:إن هاهنا قوماً يعبدون شجرةً من دون الله عز وجل. هذه شجرة آل أمرها وتعظيم هؤلاء العباد لها، وتعلّق قلوبهم بها إلى أن بلغ تبرّكهم بها إلى أنهم يعبدونها من دون الله.
فغضب لذلك فأخذ فأسه على عاتقه وانطلق ليقطع هذه الشجرة فاستقبله إبليس في صورة شيخ، فقال: أين تريد أصلحك الله قال: أريد هذه الشجرة فأقطعها، فقال: ما لك ولهذا تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرّغت لغير ذلك.
هو الآن يقول له إن ما كنت فيه هو الأمر العظيم الذي ينبغي أن تشتغل به ودعك من هذا الأمر، فقال له الرجل: إن هذا من عبادتي، إن من حق الله عز وجل علينا إذا كنت أعبده حقّ العبادة حقّاً أعظّمه حقّ التعظيم حقّا، أن أحذّر الناس من أن يتعلّقوا بغيره ويعلقوا قلوبهم بسواه وأن أغرس في قلوبهم شجرة التعظيم الإجلال والإكبار لرب العالمين تبارك وتعالى فإن هذا من عبادتي.
فقال له الشيطان: إنه لا سبيل لك إليها، فقاتله فغلبه العابد فطره إلى الأرض وجلس على صدره، فقال له الشيطان: أطلقني حتى أكلمك، فأطلقه، فقال له: إن الله عز وجل لم يأمرك بهذا ولم يفرضه عليك،وأنت لست تعبده، وليس لك بغيرك شأن وإن لله عز وجل في أقاليم الأرض أنبياء لو شاء لبعثهم إلى هؤلاء القوم فيأمرونهم بقطعها، وهذا هو أول الخطأ، هو علم من أول مرّة أن هذا إنما يدعوه إلى الشرّ والسوء لكنه مع ذلك أصغى إليه مرّة ثانية، هي لم تقع في قلبه موقعها،نعم، لكن أثارت فيه ولابد، هو فتح على نفسه باب الغواية، فتح على نفسه باب التأثر بوسوسة الشيطان فلما قال له ذلك: قال العابد :لابد لي من قطعها، هو إذاً لم يتأثر فقاتله مرّة أخرى، فغلبه مرّة أخرى وقعد على صدره، فقال له: هل لك في أمرٍ فصلٍ بيني وبينك وهو خيرٌ لك وأنفع، قال: وما هو، قال: أطلقني حتى أكلمك، فقام، فقال: إنك رجلٌ فقير لا شيء لك وإنما أنت كلٌّ على الناس يعينونك وأنت تحبُّ أن تتفضل على إخوانك، وتحبُّ أن تواسي جيرانك وأن تشبعهم وتحبُّ أن تستغني عن الناس.
قال: نعم، قال: فإني أعطيك في كل صباح يومٍ دينارين، وترجع عن هذا الأمر الذي كنت تريد – الذي هو قطع الشجرة – فتنفق على نفسك وعلى عيالك وتتصدق على إخوانك، فيكون هذا أنفع لك وللمسلمين، وأما هذه الشجرة فإذا قطعتها غرس الناس مثلها ولا يضّرهم قطعها بضر.
فتفكّر الرجل في هذا وقال: صدق الشيخ، إنني لست بنبي فأومر بقطعها، ولم يأمرني الله عز وجل – بها أي أمراً مباشراً – فأكون عاصياً بتركها، وهذا أنفع لي وللمسلمين فرجع إلى متعبّده وترك الشجرة.
فلما كان في صباح اليوم التالي وجد تحت وسادته دينارين، ثم في اليوم الذي يليه وجد تحت وسادته دينارين آخران، وفي اليوم الثالث والرابع والذي يليه لم يجد شيئا، فغضب وأخذ فأسه على عاتقه وأراد أن يخرج فيقط الشجرة، فوقف له الشيطان في صورته فقال: أين تريد، قال: أريد أن أقطع الشجرة التي تعبد من دون الله، قال: كذبت، ما أنت بفاعل ولا سبيل لك إليها.
فأراد العابد أن يغالبه كما كان يغالبه قبل ذلك، فقال: هيهات، فأخذه الشيطان فصرعه فكان كالعصفور بين رجليه، فلما رأى العابد أن لا قبل له بالشيطان، قال: طلقني ولكني أسألك سؤال لماذا غلبتك أول مرّة وغلبتني أنت الآن؟، قال: لأنك أول مرّة غضبت لله وأردت رضوانه والدار الآخرة فسخّرني الله لك، وأما في هذه المرّة فإنما غضبت لنفسك وللدنيا فسلّط عليك فصرعتك
فإذاً من خلال هذه القصّة يتبيّن لنا كيف يلج الشيطان إلى قلب العبد الصالح وكيف يلبس عليه أمره، وكيف يشوش عليه فكره.
كان الأمر في بدايته جليّاً واضحاً بيّناً هو يعلم أن الخلق إنما خلقهم الله تبارك وتعالى لعبادته وتوحيده وتعليق قلوبهم به وأنه لا يملك النفع والضرّ والإحياء والإماتة وجلب الخير ودفع الشرّ إلا هو تبارك وتعالى الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ يعلم هذا بجلاءٍ ووضوح، يعلم أن هذا هو رسالته ومهمته أن يعلّق قلوب العباد بربهم تبارك وتعالى وهو يسير على هذا ويمضي عليه، ثم يعرض له الشيطان، هو حينئذٍ أقوى من الشيطان وأقهر وأغلب لأن الله عز وجل معه يثبته ويؤيده فلما ولج إلى قلبه وسوسة الشيطان وأفسد عليه نقاء تصوّره بحسابات عقله، وأنه هو أصبح الذي يقدّر المصالح ويقدّر الخير والشرّ.
ثم هو لم يكتف بذلك بل وضع تحت وسادته هذين الدينارين، كان ربما يكتفي أن يقول له ذلك ويبرم معه اتفّاقاً ثم لا يعطيه شيئاً،، لا، هو أراد أن يذوق بالفعل التعلّق بهذه الدنانير يوماً ثم يوم، فلما تعلّق قلبه بها أدرك الشيطان حينئذٍ أنه قد انتصر عليه وأن عامل قوّته الذي يقهر به الشيطان قد سلب منه ولذلك لمّا لقيه مرة أخرى لم يعبأ به، هو يعلم أنه حينئذٍ ضعيفٌ مقهور، ما سبب ضعفه وقهره؟ أنه خرج من كنف رعاية الله وحفظه، خرج من كنف إخلاصه لله عز وجل وصدقه له إلى شوب التعلق بالدنيا وشهواتها.
فإذاً أصحاب العبادة والتأله، أصحاب الدين والدعوة إليه، إذا ما استطاع الشيطان أن يشوش عليهم، أن يخلط في عقولهم وقلوبهم المصالح، أن يلغي من عقولهم ومن قلوبهم قضية الأساس التي خلق الله عز وجل الخلق لأجلها وهي أن يرتبط الناس كلّ الناس بالله تبارك وتعالى، أن يدرك الناس كل الناس عظمة الله تبارك وتعالى، أن يدرك الناس كل الناس ألا سعادة لهم ولا فلاح ولا نجاح إلا في اتّباع رضوان اللهحين تتشوش عليهم هذه القضايا، حين ينسون في غمار حركتهم هذه القضايا، حين تختلط عليهم الأمور، حينئذٍ يكون الفساد العريض.
إن هؤلاء العبّاد هم الذي يناط بهم إصلاح أحوال الخلق، هم النبراس الذي ينير للناس طريقهم، فإذا التبس على هؤلاء أمورهم، فحال غيرهم من الناس أفسد وأفسد، لذا كان عبد الله بن المبارك يقول: يا معشر القرّاء – قرّاء القرآن – يا ملح البلد من يصلح الملح إذا الملح فسد، الملح هو الذي يصلح الطعام، إذا كان بغير ملح أو كان ملحه زائداً كان هذا فاسداً وكان هذا فاسداً، الملح شيء بسيط هذا الطعام كله الذي استغرقنا ساعات في إعداده إذا أفسدنا مقدار الملح فيه أفسدناه كلّه، فهو يقول: من يصلح الملح إذا الملح فسد، فأعظم شيء وأخطر شيء على العباد، هو هذه الشجرة التي يلتبس عليهم أمرها.
فحينئذٍ يتسلط عليهم الشيطان، وإذاً فإنما كان حديثنا اليوم تحذيراً من هذه الشجرة وأن هذه الشجرة الخبيثة إنما تقود في الآخرة إلى شجرة أخبث وأخبث، فتعلق قلب العبد بهذه الشجرة، نسيانه لله، نسيانه للآخرة، سوف يقوده إلى مصير أصحاب الجنّة وسوف يقوده إلى هذه الشجرة.
نحن لا سبيل لنا إلا التعلّق بربنا تبارك وتعالى، لا نجاة لنا ولا سعادة إلا بالتمسك بأهداب دينه ومنهاجه وشرعه سبحانه وتعالى، نحن في هذا المجتمع ليس هناك أحد يبكي عليه، المواطن في هذا البلد لا يعبأ به أحد، كل فصيل إنما يعبأ بمصالحه وبما يترآى له، أما نحن فليس لنا إلا الله، لا تعوّل على غير الله تبارك وتعالى.
نحن ليس لنا من ملجأ إلا هو تبارك وتعالى، إذا علّقنا قلوبنا بالله، إذا أخلصنا لله تبارك وتعالى كفانا الله كل شر ويسّر لنا كل خير، أما إذا انصرفت قلوبنا عن الله، إذا تعلّقت بهذه الشجرة، أو بأي شجرة أخرى من مثل هذه الشجرة، فحينئذٍ كان هذا هو الفساد وهو البغي.
القضية واضحة، هذه الشجرة التي حذّرنا الله عز وجل منها إذا اتبعنا أمر الله عز وجل الذي أمرنا به، واتبعنا وصيته، حينئذٍ كانت لنا الحياة الطيّبة ذات الثمار والأشجار الوارفة في الأولى والآخرة.
وإذا تنكّبنا هذا الطريق فإن العاقبة كما قال الله تبارك وتعالى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، أرنا الباطل باطلاًو ارزقنا اجتنابه، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، أرنا الباطل باطلاًو ارزقنا اجتنابه
اللهم إنا نسألك أن تلطف بنا، اللهم إنا نسألك أن تلطف بنا وترحمنا.
اللهم إنه ليس لنا ولي إلا أنت، ليس لنا ناصر إلا أنت، ليس لنا معين إلا أنت، ليس لنا إله إلا أنت
اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم عجزنا، اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمن روعاتنا، اللهم استر عوراتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك ان نغتال من تحتنا
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم