بسم الله والحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
كنا نتكلم عن إذن ربنا سبحانه وتعالى لسيدنا أبوبكر بالهداية والاستجابة لنداء الله تبارك وتعالى، وقلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أول خطوة أخذها بالاستجابة لأمر الله تبارك وتعالى لقوله قُمْ فَأَنْذِرْ أن يتوجه لصديقه أبوبكر رضي الله عنه بالدعوة إلى الإيمان، وقلنا أن ربنا سبحانه وتعالى من رحمته أنه ربما يضع في طريقك ما يرشدك أو يوجهك أو يهيئك أو يؤهلك للخير الذي يريد ربنا سبحانه وتعالى أن يعطيه إياك، واستدلينا على ذلك بقصة سيدنا أبوبكر رضي الله عنه مع ورقة بن نوفل، وقلنا أن هذا الكلام قبل البعثة النبوية بقدر سبع سنوات تقريبًا، وأن سيدنا أبوبكر مع كونه شخصًا خيّرًا على قدر كبير من الخلق الرفيع والأدب العالي والإحسان البالغ والعلم الواسع الجم، لم يكن يطرأ على ذهنه أو يفكر أو يعرف أمر النبوة، وقلنا أن أمر النبوة كان ذكره أو علمه اندثر من حين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لما طويت هذه الصفحة في مكة، نعم بقيت الكعبة وبقي الحج من شعائر دين إبراهيم عليه السلام لكنه قد أصابه من التشويه ما أصابه، أما أصل فكرة النبوة والهداية والرسالة فكانت غائبة عن الأذهان إلا فكرة قليلة جدًا مما تهتم بالأمر.
فذكرنا في الدرس قبل الماضي أن سيدنا أبوبكر رضي الله عنه يقول أنه كان جالسًا في فناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه جالسًا بفناء الكعبة أيضًا، ونحن تكلمنا كثيرًا عن زيد وأنه كان على الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام وكان يأبى عبادة الأوثان وينكر على قريش كثيرًا مما تأتي به مما ينافي مكارم الأخلاق، وكان زيد ينتظر مبعث نبي فيتبعه، فمرّ به أمية بن أبي الصلت شاعر ثقيف، وكان أمية أيضًا على علمٍ بأخبار النبوة، وكان رجلًا على قدر من الحكمة وكان يحدث نفسه أنه ربما كان هو النبي المنتظر، فلما مرّ أمية بن أبي الصلت بزيد بن عمرو بن نفيل قال له: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ أي الشخص الذي يبحث عن الهداية، قال: بخير، قال: هل وجدت؟، أي وجدت ما تبحث عنه؟ قال له: لا، فقال له: أما إن هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم، إما أنه من قريش أو من ثقيف، فسيدنا أبوبكر يقول إنه أول مرة يرد على ذهنه أنه يوجد شيء اسمه هكذا، أن هناك نبي ينتظر أنه في النهاية، أن هناك نبي وهذا النبي يوشك أن يخرج، فسيدنا أبوبكر ماذا فعل؟ ذهب إلى ورقة بن نوفل، لكي يسأله، لأن ورقة الرجل الذي يعرف بالعلم، والقراءة في الكتب، الرجل المتعلم عبري، ذهب ليتعلم عبري لكي يستطيع أن يقرأ في المصادر الأصلية لكتب أهل الكتاب.
فهو كان من الممكن أن يسأل الناس الذين يتكلمون، هو عندما أحب أن يعرف بحث عن الشخص الذي هو أكثر شخص من الممكن أن يفيده أو يهديه أو يرشده أو يعرفه، فلما سأل ورقة، ورقة قال له نعم، يوجد نبي منتظر، وهذا النبي من أوسط العرب نسبًا أي من أرقاهم نسبًا ” وقومك أوسط العرب نسبًا ” فهو سأله، ما معنى نبي،، وقلنا الدرس الماضي أن مفهوم النبي كلفظ لغوي معروف، وأن هذه من نعمة ربنا سبحانه وتعالى ورحمته،،أن امتن علينا أنه يخاطبنا بلسان عربي، وأن الأشياء التي أرشدنا إليها ربنا سبحانه وتعالى كلها بالفطرة والمعرفة الأصلية لها معاني واضحة، عندما يسمى الدين ” بالإسلام ” إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ معنى الإسلام: أن يسلم الإنسان نفسه لله، هي ليست كلمة مبهمة أو رموز، كل كلمة ربنا سبحانه وتعالى يخاطبك بها تضع عندك معنى، سيأتي التربية النبوية والتربية النبوية والمعاني القرآنية ترسخ المعنى، توضحه فقط، تعمقه، لكنه ليس معنى مجهول.
عندما تتكلم عن الإيمان، هذا الإيمان عبارة عن ماذا؟ عبارة عن الشعور، أو الشيء المورث للأمان من شخص أنت تجعله في دائرة الائتمان، فهو لماذا يسمى إيمان؟ لأن الشخص الذي يخبرك به سيخبرك به شخص أنت تأتمنه، تثق فيه، والشيء الذي سيورثك إياه، سيعطيك الإحساس بالأمان، فلما تدعى للاستسلام سبحانه وتعالى، وتدعى لما يورثك للأمان لن تقل لا،، مثلما قلنا الدرس الماضي؛ ما معنى شريعة؟ الشريعة: مصدر الحياة، فعندما يعطيك ربنا سبحانه وتعالى مصدر الحياة؛ السهل الميسر؛ الطبيعي أن من يفهم لن يقول لا، نحن قلنا أن الشريعة ما هي؟ هي مصدر الماء العذب، الذي يسهل الوصول إليه، أي إنها لا تسمى شريعة إلا إذا كانت ماء كثير، والماء الكثيرة هذه ظاهرة ليست بئر عميق، لا الماء على ظهر الأرض، والمنحدر الذي سنصل به إلى الماء منحدر، وليست مرتفع، أي أن الماء سهلة، لا تحتاج إلى مجهود لكي تصل إليها، والطريق الذي سيوصلك إليها الطريق منحدر، فأنت إذا كان لديك دواب تريد أن تسقيها بمجرد أن تضعها على رأس الشريعة ستصل إلى الماء تشرب بدون أن تتعب.
فهو إلام يدعوك؟ يدعوك إلى الحياة يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فمن الذي سيقول لا؟ من الذي يكره الحياة؟ فيقول لك: أنا أدعوك إلى المصدر، إذن الوحي هو ماذا؟ كما قلنا في الخطبة، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، هو يدعوك إلى مصدر الحياة الذي ستصل إليه بيسر، وتنال منه ما يقيم حياتك، فأكيد أنا لن أقول لا، فقلنا ما معنى نبي؟ النبي: هو الشخص ذو المكانة الرفيعة والقدر العالي، قلنا أصلها النبوة، والنبوة هي العلو والارتفاع، فربنا سبحانه وتعالى حينما يصطفي نبي يصطفي شخص هو أهل لهذا الاصطفاء، فأنت حينما تقول أن هذا نبي بمجرد أن تعرف الكلمة فأنت تتكلم عن شخص أهل أن تقدره وأهل أن تتبعه، فلما يقال أن ربنا اختار محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة، وأنت تعرف معنى النبوة، فستنظر إلى هذه الصفات هل ستنطبق عليه أم لا، هو أهل للتقدير فعلًا أم لا؟ هو أهل للتقدير فعلًا أم لا؟ هو شخص ذو مكانة عالية أم لا؟ هو شخص تنظر إليه الناس بقدر من التعظيم والثقة أم لا؟
إذن إذا كنت تعرف معنى النبوة، فالنبوة تنطبق على هذا الشخص، وبالتالي النبي يصلح أن يكون رسول، ما معنى رسول؟ شخص اصطفاه ربنا لكي يبعثه برسالة، وعندما تقول أنه رسول ما معنى هذا؟ معناها أنه لا يقول شيئًا من عنده، يقول ما يقال له بالضبط، فالنبوة دلالة على المكانة والرسالة دلالة على الالتزام بالمضمون الإلهي. ولذلك نحن قلنا الدرس الماضي؛ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم البراء بن مالك ذكر يقوله قبل النوم؛ حينما قال ” ورسولك الذي أرسلت ” قال له لا، لا تقول ذلك، أنت ستقول ونبيك الذي أرسلت، قلنا ما الفرق، لما تقول النبي والرسول وتجمع بينهم فأنت ذكرت شيئين؛ ذكرت وصف الشخص نفسه وذكرت المهمة التي بعثه ربنا بها، لكن حينما تقول ” ورسولك الذي أرسلت ” فأنت تكلمت عن شيء واحد فقط، عن معنى الرسالة، لكن هذه الرسالة مستندة إلى أي شيء، فلماذا ربنا اختاره رسولًا؟ لأنه نبي، اختاره رسول لأنه أصلًا نبي، أي شخص ذو مكانة رفيعة، فسيدنا أبوبكر سأل ورقة، ماذا يفعل النبي؟ فقال له ورقة، النبي سيقول ما قيل له، فهذا معنى الرسالة.
أي أن ربنا سيقول له كلام سيبلغه لك، ثم وضع قانون، قال: ” إلا أنه لا ظلم ولا تظالم ” ، فماذا قال ورقة لسيدنا أبوبكر؟
ذكر للنبي وصفين، هو يعرف ما معنى نبي أصلًا، فما الوصفين الذين وصفه بهما، أن هذا الشخص يلتزم تمامًا بما يخبره الله به، فهو لا يأتي بشيء من عند نفسه، لا يقول شيء من نفسه، لا ينطق عن هوى النفس، وبالتالي يتسم بالمصداقية التامة، الأمر الثاني: الشيء الذي سيبعثه ربنا بها لابد أن تشتمل على العدل، هذا العدل قوام الإسلام، أساس الإيمان (إلا أنه لا ظلم ولا تظالم) أي أن هذا الشخص لن يظلم ولن يقابل الظلم بالظلم، هذا قانون.
سيدنا عبد الله بن رواحة، رضي الله عنه، النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فتح الله عليه خيبر، كان عمل عقد شراكة مع أهلها، فهم يزرعون ويأخذون في مقابل جهدهم النصف، والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الذين هم أصحاب هذه العين يأخذون النصف، فلما يأتي وقت جني الثمار، يبعث النبي صلى الله عليه وسلم شخص يقدر مقدار نتاج النخيل، لأنهم إذا أخذوه فلن تعرف ماذا أخرجت النخيل، فسيقولون خذ هذا، وفقط، فهذا لن يصلح، فهم ماذا يفعلون، يقدرون، ومن يقدر هذا خبير، فالخارص هو الخبير، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه كان خبيرًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليخرص عليهم النخيل، فهو سيقدر كم ستخرج لكي يكون معروفًا كم مقدار النصف الذي سيأتي للنبي صلى الله عليه وسلم.
فاليهود؛ قالوا: أنت ستأخذ هذا المال – رشوة – في مقابل أن يغيّر الأرقام، فعبد الله بن رواحة قال لهم: يا جماعة أنا أتيت من عند شخص، هذا الشخص أحب عباد الله إليّ وأنتم من الخلق أبغض خلق الله إليّ ولكن لا يحملني حبي إياه وبغضي إياكم على أن أغمطكم حقك، فماذا قالوا له؟ قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض، إنما قامت هذه الدنيا على ميزان العدل، ولذلك إذا اختل ميزان العدل، لابد تفسد،، ليست الأرض فقط قالوا ” بذلك قامت السماوات والأرض ” فهذا ميزان العدل.
لذلك ورقة بن نوفل يقول إنه يقول ما قيل له، ولكنه نص على هذا الأمر، أنه لا يظلم ولا يظالم، فسيدنا أبوبكر ماذا يقول؟ يقول: أن ربنا سبحانه وتعالى نبهوا وأرشده إلى هذا المعنى الذي كان غائبًا وإلى النبوة التي كانت تنتظر، فلما أتى النبي يدعوه، هو لم يقل له أمر كان بعيدًا عن ذهنه، لا، هي كانت قربت نتيجة لهذا الموقف.
إذن ربنا سبحانه وتعالى ربما ييسر للإنسان في حياته مواقف أو لقاءات أو جمل أو أشياء يعرفها، أو يسمعها تكون مقدمات لخير، ربنا سبحانه وتعالى يريد أن يدخره لهذا العبد لأن هذا العبد يستحق أو يستأهل الخير.
النقطة الثانية: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يومًا، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أنعم الله عليه بالرسالة واستجاب له عديد من المؤمنين بعد مرور فترة طويلة فهو جلس معهم يومًا، فسألهم سؤال؛ فقال: من منكم يحفظ كلام قس بن ساعدة في سوق عكاظ، فسكت الصحابة، فقال الصديق: إني أحظها يا رسول الله، كنت حاضرًا يومها في سوق عكاظ ومن فوق جمله الأورق وقف قس يقول ثم قال كلامًا.
هنا عم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قس بن ساعدة الإيادي كان رجلًا من الطاعنين في السن، وممن يوصف بقدر من الحكمة، وكان في موسم الحج إذا أتى بعدما ينتهي الناس من المناسك ينتقلوا إلى الأسواق للبيع والشراء، وهذه الأسواق كان يحدث فيها أمران؛ متاجرة الناس، وعقد الناس الاجتماعات لقول الأشعار، كل قبيلة تأتي بشاعرها، فيذكر قصيدة فيها مدح وثناء لقومه وفخر بهم ومفاخرة لغيرهم، قال الله تبارك وتعالى فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا تعظيمهم لهم وثنائهم عليهم وتفاخرهم بهم في الأشعار، فربنا يخاطب المؤمنين بعدما آمنوا فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كما كنتم تذكرون آباءكم، أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا لأن ربنا سبحانه وتعالى الحقيق بأن يثنى عليه وأن يحمد وأن يعظم وأن تذكر آلائه ونعمه ورحمته سبحانه وتعالى، فقس بن ساعدة كان يأتي يقف في السوق فيعظ الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول هل أحد منكم يحفظ الكلام الذي كان يقوله، فكل الناس من الصحابة الذين كانوا يجلسون لم يتكلم منه أحد، فسيدنا أبوبكر قال أنا أحفظه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له قل، فقال سيدنا أبوبكر قال: أنه كان يقف فيقول ( يا أيها الناس اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا) فأول شيء الاصغاء، لكي يستفيد الإنسان من أي شيء ربنا سبحانه وتعالى يقول إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ تستوعب جيدًا ما تسمعه، هو يدعوهم أن ينصتوا، وعندما ينصتوا يستوعبوا أي يفهموا ويترجموا ما يقوله، وبعد ذلك؟ بعدما يعوا من المفترض أن ينتفع، فالشخص حينما يعرف شيئًا وسيتوعبها جيدًا من المفترض أن يطبقها لكي يستفيد منها، أو ينتفع، لأنه لا فائدة لمعرفة لا ثمرة لها، فهو ماذا يقول؟ يقول ( إنه من عاش مات ) هذا المآل النهائي ( ومن مات فات ) لن يستطيع أن يستدرك شيء بعدما يموت، ( وكل ما هو آت آت) كل ما قدره ربنا أن يكون آت لا محالة، فالإنسان إذا قدّر عليه الموت فإنه آت لا محالة، ( إن في السماء لخبر وإن في الأرض لعبر، مهاد موضوع وسقفٌ مرفوع، ونجوم تمور وبحار لن تغور، ليل داج وسماءٌ ذات أبراج) يقسم قس قسمه، إن لله دينًا هو أحب إليكم من دينكم الذي أنتم عليه، ثم قال: ( ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرادوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا، ثم ينشد: في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر ::: لما رأيت مواردًا للموت ليس لها مصادر) الموارد والمصادر أنت حينما يكون لدينا مصدر الماء وأنت تريد أن تسقي دابة أو ناقة، توردها، أي تدخلها على الماء وتصدرها، أي بعدما تشرب وترتوي ترجعها مرة أخرى، فهو يقول أنهم يذهبون ولا يرجعون، ( ورأيت قومي نحوها يسعى الأكابر والأصاغر ::: أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر ) هذا الكلام، لماذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال؟ وما دلالة أن سيدنا أبوبكر قال كل هذا الكلام؟ فهذا الكلام سمعه منذ زمن، وحفظه جيدًا، وهو كلام صعب الحفظ، فمن الصعب أن تسمعه فتحفظه مباشرة، فما دلالة أنه سمعه وحفظه واستحضره واسترجعه؟
أول شيء لماذا يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال؟ هذا السؤال من الذي سيقف مع هذا الكلام ويصغي إليه وينتبه؟ شخص يفكر بشكل معيّن وينتبه لكل فرصة من فرص التذكرة التي تمر به، ويحاول أن يفكر ويتأمل في كل شيء يسمعها، فالعادي أن الناس كانوا يجتمعون في السوق لماذا؟ مثلما قلنا إذا لم يوجد تعامل في البيع والشراء فهي مفاخرة بالأحساب والأنساب، فعندما يمر هذا الرجل من الذي سيترك ما هو فيه ويجلس ليستمع إليه؟ ليس كل الناس، فمن الذي سيسمعه ويهتم بما قاله؟ ليس كل من سمعه.
لماذا أوقف سيدنا أبوبكر هذا الكلام لدرجة أنه ركز في هذا الكلام إلى أن حفظه؟ فمعنى هذا أنه كان مصغي غاية الإصغاء فحفظه بعدما سمعه وظل مستحضره بعد سنوات، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجد شخص غيره يجاوب هذه الإجابة أو يقول هذا الكلام الكثير، فهذا علامة على ماذا؟ أنه كان يفكر بشكل مختلف قليلًا، ويقدر مواطن الحكمة والموعظة، هذا الكلام في النهاية، ماذا يقول الرجل؟ الرجل يذكر الناس بالمآل، يذكرهم بآلاء ربنا سبحانه وتعالى، ويقول لهم أن ما هم عليه من دين ليس هو الدين الذي يرتضيه الله سبحانه وتعالى، وأن مآل حياتهم إلى زوال ولابد أن يفكروا في مستقبلهم بعد الموت.
هذا الكلام – أصلًا – ليس محببًا، في العادي الناس تحب أن تسمع الكلام الذي يروقها، أو الكلام الذي يجري على هواها أو الكلام الذي لا يحزنها، فسيدنا أبوبكر الشخص الذي يحب الحزن، فالشخص الذي سيستمع إلى هذا الكلام ويحفظه فهو يحب الكلام الكئيب.
إذن الكآبة شيء حسن، لأنها تؤهل الإنسان للهداية، فهذه في النهاية هي الثمرة أو العاقبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يسأل هذا السؤال فهو يريد أن يرى أو يستخرج من الصحابة؛ هم كانوا يعيشون قبل إيمانهم حياة فيها إدراك لمن حولهم، أو التفات لما ينبغي أن يلتفت إليه، أو تأمل بأي مقدار، من الذي برز في هذا الموقف أكثر من غيره؟ سيدنا أبوبكر رضي الله عنه.
فنحن حينما نريد أن نقول وضع أو مكانة أبوبكر أو ما وصل إليه، كل حالة من الحالات يكون لها إرهاصات أو مقدمات، فلكي تعرف سيدنا أبوبكر في الإسلام محتاج نوعًا ما تعرف سيدنا أبوبكر قبل الإسلام، فهو لم يولد وقتها، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب شخص صاحب سبع وثلاثين سنة وكذا شهر، أي قدر كبير من النضج حصل عليه خلال سنوات طويلة، ميّزه عن غيره، لأنه في حياة الجاهلية كان يعيش بشكل مختلف عن الآخرين فأصبح هو مؤهل أكثر، أو أقرب للإيمان من الآخرين، لماذا؟ لأن سماته واهتماماته وطبيعة شخصيته وأخلاقه كانت مختلفة، ولذلك قلنا الدرس الماضي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال ( الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) أي أن أكثر ناس مؤهلة للخير وللإيمان الناس الذين هم قبل أن يسمعوا وقبل أن يستجيبوا وقبل أن تقبل على الله كانوا أناس فيهم قدر من الخير، قلوبهم تنطوي على قدر من الرحمة وقدر من البر وقدر من الإحسان، قدر من الشفقة، قدر من النفرة من الفواحش، هؤلاء الناس تكون أقرب للهداية.
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب؟ هو يخاطب كل الناس لأن ربنا أمره أن يوصل الرسالة لكل الناس، لكن وهو يخاطب أخذ الموضوع بشكل تدريجي، أخذ الناس الأقرب، الناس الذين من الممكن أن تكون استجابتها أسرع، الناس الذين هم أدنى لمواطن الهداية.
نحن قلنا أن الناس على مدرج هكذا، ويوجد أناس قريبة وأناس ورائهم فهو لن يقفز، هو يسير فيأخذ الأقرب فالأقرب، فسيدنا أبوبكر كان أقرب شخص، فهو تناول أقرب شخص، فلما ينتهي من هذه الدائرة سينتقل إلى الدائرة التي بعدها، وسينتقل إلى الدائرة التي بعدها، هذا هو الطبيعي، أنك في النهاية تسير بشكل تدريجي، وفي نفس الوقت هؤلاء الناس الأقرب عندما تصل إلى الدائرة الأبعد ستكون معك ومن الممكن أن تدعمك، ومن الممكن أن تسندك، ومن الممكن أن تؤدي أدوار تحتاجها في تأييد ما أنت عليه، هذا هو القانون الذي وضعه ربنا، قال سبحانه وتعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا لماذا غيّر ربنا سبحانه وتعالى بين المثالين؟ فأنت تصفهم فمن المفترض أن تصفهم بوصف واحد، لا لا، ربنا وصف النبي صلى الله عليه وسلم والتوراة بوصف، ووصفهم في الإنجيل بوصف، فالطبيعي، الطبيعي أنك ستقول أن هؤلاء الناس وصفهم هكذا.
ربنا سبحانه وتعالى هنا ماذا يقول؟ قال أنه وصفهم لليهود بوصف ووصفهم لأهل الإنجيل بوصف، لماذا؟ حسب النقطة التي يريد أن يلمسها أكثر عند كل جماعة، عندما وصفهم عند اليهود، وصفهم بماذا؟ أول شيء: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ وبعد ذلك رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ” رحماء على المؤمنين ” ! لا، قال أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ فما الفرق بين الاثنين؟ أول شيء: أنهم شخصيات بالغة الاتزان، ليس من وصفهم القسوة التي تؤدي إلى الشدة في كل حال، ولا وصفهم التراخي الذي يؤدي إلى تضييع الحقوق أو الوقوع في أسر الذل أو المهانة ولكنهم يعرفون أين يضعون كل خلق، وكل شيء يوضع في مكانه الصحيح، وهذه حقيقة الحكمة أن تضع كل شيء في موضعه.
الإنسان في طبيعته أن ربنا غرس بداخله الأنفة وعدم القبول للمذلة، ووضع بداخله مشاعر الرحمة والشفقة والرأفة، لو وجد شيء من الاثنين والآخر غير موجود فهذا نوع من الانحراف الموجود بالإنسان.
ولو الأشياء غير موضوعة في أماكنها؟ فهذا نوع من أنواع الفساد الأشد، فحينما يقول أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ فلو كان المؤمنون يتعاملون مع بعضهم بالشدة أو بالعنف؟ وهم عندهم قدر من الرحمة فطرهم ربنا عليها أين سيضعوه؟ سيضعوه مع الناس الذين كانوا من المفترض أن يعاملوهم بالشدة، فالأزمة هنا، ماذا يقول ربنا سبحانه وتعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ فهنا وصفهم بالتذلل، هم يضعوا أنفسهم، هم ليسوا وضعيين، ولذلك ربنا ماذا قال؟ قال أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي أنه في حال العلو، لكنه ينزل من نفسه بإرادته لئلا يجعل في النهاية نفرة بينه وبين المؤمنين ” إذا عزّ أخوك فهن ” إذا ارتفع بنفسه قليلًا، فأنت اضغط على نفسك اختيارًا ابتغاءً لمرضاة الله، ليس لأنك نفسيتك هكذا، ولذلك قال أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وفي التعامل مع الكفار؟ يتعاملون بالعزة، لا يتعاملون بالضعة أو بالمهانة.
لو تعاملت مع المسلمين والمؤمنين بالتعزز؟ أتعامل مع غير المؤمنين بالتذلل، فهذه في النهاية خصائص نفسية موجودة، هي ستتوظف فقط، أين ستذهب؟ سيذهب كل شيء في مكانه فقط، هذه الشخصية الطبيعية المتزنة المتكاملة، فربنا يقول سبحانه وتعالى أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ قلنا ما معنى ” بَيْنَهُمْ ” كلمة الشدة على الكفار، أي أنها توضع في محلها على قدرها، أما رحماء بينهم فهذه الرحمة تعمهم وتنتشر بينهم وتغرقهم، أما الشدة لا تغرق الآخرين، لا، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى في النهاية كل شيء على مقداره لأنك تريد أن تصلح وتستصلح، أما الرحمة، فالرحمة هذا وصفهم الطبيعي الشائع بينهم، الرحمة هذه كأنها متداولة، بينهم، وكلهم يغترفوا منها، مثلما يقول ربنا وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ يتداولون الأمر جميعًا.
تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا كلما تنظر إليهم، لماذا قال ” تراهم ” لم يقل أنهم يركعون ويسجدون، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا أي أنك كلما تنظر إليهم، كلما تنظر إليهم تجدهم في مقام الخشوع والعبادة، لماذا يفعلون ذلك؟ يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، ما أثر العبادة عليهم؟ ترى نورًا من آثار العبادة عليهم، ترى نورًا من آثار العبادة عليهم، فلما تكلم أناس قلوبهم قاسية ويغلب عليهم المادية وطلب الدنيا، وعدم وجود الإحسان أو الرحمة أو السماحة في قلوبهم؟ فالأنسب أن تخاطبهم بهذا الكلام، في سمات المؤمنين، أنت تخاطب من بهذا الكلام؟ اليهود.
ولما خاطب النصارى؟ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ وهذا هو الشاهد الذي نتكلم عنه، النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو بدأ يستجيب له الأقرب من المؤمنين فآزروه، أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي فروعه، أي أن النبات خرج، وخرج حوله فروعه، ففروعه هذه أعطت له مدد وقوة وصلابة، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ أصبح غليظًا لا يسهل على العدو أن يكسره، فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ أي نضج واكتمل، ترعرع، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ الذين غرسوا هذا الزرع، لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا فهنا ربنا سبحانه وتعالى وهو يصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بماذا يصفهم؟ النبتة الصالحة التي ظلت فروعها تلتف حولها، إلى أن اكتسبت الصلابة والقوة، فأصبحت عصية على أن تكسر أو تزال.
حسن، من يخاطب بهذا الكلام؟ يخاطب بهذا الكلام الناس الذين كانوا مفتقرين لهذا، الذين لم يسلكوا هذا المسلك، أناس ربنا سبحانه وتعالى وصفهم بأنهم عكس الأوائل، وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وعبادة، عبادة وصلوا فيها أيضًا إلى دائرة الغلو وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ فطبيعة هؤلاء عكس طبيعة هؤلاء، فطبيعة هؤلاء بها فظاظة وغلظة والمادية الطاغية، ولكن بهم القوة، دائمًا لديهم فكرة الملك والدولة والسلطان مسيطرة، فعندما يخاطبوا هؤلاء بهذه الخصائص للصحابة تضبط موازينهم وتصلح خللهم، والآخرين حينما يخاطبوا بهذا الخطاب يعطيهم ما يفتقرون وما يحتاجون إليه.
فربنا سبحانه وتعالى وهو يضع صفات المؤمنين لأهل الكتاب لكي حينما تأتي الرسالة تكون الحجة عليهم ظاهرة، ومن يريد أن يهتدي لا يكون الموضوع ملتبس عليه أعطى كل فصيل أو كل فريق في ضمن ما يذكره من صفات، كأن بداخلها ما يرشده وما يحتاج هو إليه، كأنه يريد أن يقول له انتبه إلى هذا، هذه هي صفات عباد الله المصطفين، وأنت انتبه إلى هذا، هذه هي صفات عباد الله المصطفين.
فكل شيء ربنا سبحانه وتعالى يذكرها بقدر كبير جدًا من الحكمة البالغة، ولذلك إدراك الإنسان لحكم ربنا سبحانه وتعالى في توجيهاته أو في خلقه أو في تشريعه، شيء فوق فوق قدرة الإنسان أو طاقته على الاستيعاب، لكن ربنا سبحانه وتعالى أعطى الإنسان مفاتيح للحكمة، وجعل هذه الحكمة هي أعظم نعمة، قال يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ باب الحكمة هو العلم، ولكن ليس العلم هو الحكمة، العلم هو مدخل الحكمة، العلم هو مدخل الحكمة، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى قال وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا لماذا؟ لماذا أكثر شيء يحتاج الإنسان أن يستزيد فيها هي العلم؟ لأنه البصيرة والنور، كل علم أنت تزداد فيه معناه مربع مظلم استنار، هذا هو العلم، هذه هي حقيقة العلم، الدنيا مظلمة وأنت لا ترى ولا تعلم، كل شيء ربنا يعلمها لك جديدة، معناها أنه كان يوجد مربع مظلم، وهذا المربع استنار بهذه المعلومة وإلا لا يكون لها قيمة، فهي إن لم تضف شيئًا أو لا تنير شيئًا، فأنت لم تستفد شيئًا، فهي هكذا بالضبط، فلماذا وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا لأن كل بؤرة سينيرها العلم ستعطيك قدر أعلى من البصيرة، وقدر أعلى من الهداية، فتسير ومن حولك يستفيدوا منك وأنت سائر أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ لا يجلس به في المنزل، فهذا النور يسير معه بالطبيعة.
فهذا العلم هو نور ربنا وضعه في باطن الإنسان فهو سائر علمه لا يسقط منه، بل يسير معه، ولذلك الإمام الغزالي مرة كان يسير في قافلة في رحلة، وواضع كتبه جميعها على جمل، وكان فيهم كتاب فقه كبير هو ألفه وسعيد به، فهم أتوا وأخذوا كل شيء، فقال لهم يا جماعة فاتركوا لي الكتب، فقالوا له: فماذا ستفعل بالكتب؟ فقال لهم: علمي الذي ألفته موجود في الكتب، قالوا له: إذن أنت لا تعرف شيئًا، فنحن إذا أخنا منك الكتب فتصبح لا تعلم شيئًا، فأنت ليس لديك علم ولا شيء، فأنت الآن عندما آخذ منك كتابك تصبح لا تعلم شيئًا، فبعدها بدأ الإمام الغزالي يهتم بقضية الحفظ وترسيخه، من الذي علمه وأعطى له هذه الرسالة الذي تعلمها؟ هؤلاء الناس من قطاع الطرق، بالفطرة، قالوا له: إذا أخذت هذا الكتاب منك أنت أصبحت مثلي؟ أصبحنا نحن الاثنين لا نعرف شيئًا؟ فأنت لا شيء معك، فالعلم مع الإنسان وليس في الكتب.
فربنا يقول يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ فالطبيعي أنه وهو سائر ليس هو فقط الذي يستفيد، كل من حوله يستفيدوا، فلو زاد هذا النور؟ تزداد دائرة الانتفاع به، يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا لأن هذا هو النور التام، النبي صلى الله عليه وسلم يمثل النور التام، ربنا يقول وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا كل شخص على قدره يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ولكن بماذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم؟ بأنه سِرَاجًا مُنِيرًا أي جمع ما بين وصف الشمس والقمر، ربنا يقول وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وفي آية أخرى سِرَاجًا وَهَّاجًا أي يعطي حرارة، وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا فربنا هنا ماذا يقول؟ قال وسِرَاجًا مُنِيرًا جعل النبي صلى الله عليه وسلم يجمع ما بين وصفي الشمس والقمر فهو ينير لك ليلًا ونهارًا، فالشمس تسضيء بها نهارًا، والقمر تستضيء به ليلًا، والنبي صلى الله عليه وسلم معك تستضيء به لييلًا ونهارًا، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) أي أنا تركتكم على الطريق المنير، ليس به ظلام، ليس به ليل ونهار، لا يوجد مكان أنت ترى فيه، ومكان المكان مظلم، لا لا، (ليلها كنهارها) ولذلك من سيزيع بعد ذلك؟ ليس له عذر، وليس له حجة، فربنا يقول العلم الذي هو النور والبصيرة الذي سيعطيها لك ربنا، يوجد أناس حولك يستفيدون منها مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ لم تضيء له هو فقط، النبي صلى الله عليه وسلم أوقد للناس في ظلمتهم نارًا استدفؤوا بها واستناروا بها، الاستفادة؟ المؤمنين كل واحد أخذ جذوة من هذه النار، لكي ينتفع بها ويسير، أما المنافقين الذي وصفهم ربنا هنا؟ لا، هم جالسون يستضيؤوا ويستدفئوا بالنور الموجود حولهم الذي هو للمؤمنين، فهم لا يملكوه، لم يقتبس أحد منهم جذوة لنفسه، فلما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يتحركوا في طريقهم إلى الله، بقي هؤلاء لا نور لهم ولا دفء عندهم، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ فلماذا؟ لأنهم حينما أضاء النور لم يحاول كل واحد منهم أن يأخذ شيء لداخله، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا انتظروا انتظروا، انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فهم يسيرون على الصراط، والصراط كله ظلمة، وكل واحد من المؤمنين سيعطيه ربنا نور على قدر ما كان عنده من إيمان، على قدر ما اكتسب من هذه الجذوة التي أوقدها لهم رسول الله بفضل الله ونعمته، فكل واحد أخذ على قدره، فتضيء له على قدره، فمنهم الذي مثل الكوكب الدري، وآخر واحد النور على إبهام قدمه مثل البطارية الصغيرة التي تنتهي حجارتها، يضيء مرة ويطفئ مرة، فبالكاد يرى أمامه، وينير ويطفئ أيضًا، أما المنافقين؟ لم يكن لديهم نور، ليس بداخلهم إيمان، فيقولون للمؤمنين: يا جماعة انتظروا لأننا لا نرى، فسيروا ببطء لكي أذهب وراءك وأعرف، قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا هذا النور نحن أتينا به من الإيمان الذي رزقنا إياه ربنا بالدنيا، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ من قبل المنافقين الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى نحن كنا معهم، ولكننا لم نكتسب شيء بداخلنا، كنا معهم واستفدنا منهم في الدنيا، خيرات دنيوية، لكن لا يوجد إيمان، أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فالآن الإنسان يريد أن ينجو ماذا سيفعل؟ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ فلا مال، أصلًا لا يوجد مال، فهو بماذا سيفتدي؟ أن يقدم بكل هؤلاء قربان، وهذا لن ينفع ولن يفيد.
فالفكرة الآن أن العلم، هذا العلم هو النور الذي يعطيه ربنا للإنسان لكي يبصر طريقه، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم ميّز في المعلومة بين ما ينفع وما لا ينفع، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم ( اللهم إني أسألك علمًا نافعًا) وفي دعائه ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ) وقلنا العلم الذي لا ينفع نوعان، علم في نفسه لا ينفع، وعلم نافع ولكن لا ينتفع به صاحبه، العلم الذي لا ينفع هذا قسمان؛ علم هو في نفسه ليس له فائدة، قدر كبير من المعلومات ربما يكون عند الشخص، نحن نعتبره ثقافة ونقول أن فلان مثقف، ومن الممكن أن يكون بنسبة سبعين في المائة مما يعلمه من معلومات ليس لها قيمة ولا تنفعه شخصيًّا، لا في دين ولا في دنيا، لا تزيده لا خبرة ولا دراية فيدير حياته، ولا تنفعه في أخراه.
ويوجد علم ينفع في نفسه، لكن من الممكن ألا ينتفع الإنسان – عياذًا بالله – بالعلم الذي كان من الممكن أن يستفيد به لأنه مشغول عن حقيقته، فمتى يكون العلم نور؟ عندما يكون العلم في نفسه نافع فينتفع به صاحبه، فهو ينفع نفسه وينفع من حوله، بالضرورة، أنت لا تحتاج أن تعطي لكل واحد شمعة، أنت وأنت سائر أنا سأستفيد منك، بدون شيء، أنا إذا سرت بجانبك أنا سأستفيد منك لأنني سأرى أفضل، يكفي القدوة.
فالقدوة عبارة عن ماذا؟ عبارة عن شخص يسير في الأمام وأنا أستهدي به، فأنا أراه أنه يسير بشكل حسن فسأحاكيه وأقلده، ولذلك من أعظم كلمات العلماء ( من لا ينفعك لحظه لا ينفعك لفظه ) من لا يفيدك أو ينفعك ملاحظته ومراقبته في سلوكه وأعماله وممارساته لن ينفعك كلامه، لن يفيدك في شيء، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم وضع لك أسوة وقدوة، ليس مجرد شخص يتكلم، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا فربنا قال وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا لأننا محتاجين أن نستزيد من هذا، لماذا؟ لأنه لو علم نافع سيرزقنا قدر كبير من البصيرة والهداية، فربنا ينجينا من التخبط كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ وهذه كثيرة لا تنتهي، ” الظلمات ” جمع، لها مائة ألف شكل ولون، والنور شيء واحد فقط، لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ برحمة الله، إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وهذا العلم ثمرته هي الحكمة، العلم حينما ينفعك ربنا به يترجم إلى حكمة، وقلنا ما معنى الحكمة؟ أنك تعرف أن تضع كل شيء في مكانه، تتصرف التصرف السديد، تقول الكلمة الصحيحة في المكان الصحيح، وتتصرف التصرف السليم في الموقف الذي يناسبه فعلًا، فالحكمة: هي وضع كل شيء في موضعه، ولذلك لماذا سميت السنة حكمة؟ هذه من الكلمات الخطيرة جدًا، فالسنة والسيرة هي الحكمة وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ لماذا سماها الحكمة؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الشخص الذي يضع كل شيء في موضعه وفي محله الدقيق الذي يليق به، ونحن عندما نتعلم منه ربنا يعطينا من هذا يُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فربنا يقول أن من يعطيه الحكمة هذا هو من آتاه ربنا الخير وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لابد أن يشكر، يجب أن يشكر، لأن ربنا آتاه أفضل ما يؤتيه البشر، لأنه إن لم توجد الحكمة حتى لو وجدت النعم المادية لن تستطيع أن توظفها جيدًا، وبدلًا من أن تكون سبب نعمة تكون سبب نقمة، فوجود الحكمة هو صمام الأمان الحافظ للإنسان من التخبط والتردي والهلكة، والحكمة طريقها العلم، والعلم كما قلنا ليس هو الحكمة، ولكنك لن تستطيع أن تصل إلى الحكمة إلا بأن تمر مرورًا صحيحًا من باب العلم وتسأل ربنا سبحانه وتعالى أن يرزقك الحكمة، الحكمة ما هي؟ الانتفاع بالعلم، حسن ترجمة العلم، حسن توظيف العلم، فأحيانًا يكون لديك المعلومة ويأتي الموقف فتنساها، أو تتصرف عكسها، أو نفسك لا تطاوعك معها، فما الحكمة؟ أن يرزقك ربنا بحقيقة الانتفاع بالعلم، هذه أعظم نعمة أن يرزق ربنا الإنسان الحكمة
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، جزاكم الله خيرًا.