إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد.
قام اليشكريُّ أمير المدائن على منبره في يوم الجمعة وكان الأمراء في زمان الإسلام هم الأئمة الذين يقيمون للناس الصلاة، وهم الخطباء الذين يعظون الناس وينصحونهم ويرشدونهم.
قام على منبره: فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثُمَّ أرتج عليه, أرتج عليه: أي أغلق عليه الكلام أي لم يستطع أن يتم كلامه أو أن يتم خطبته, فسكت، ثمّ قال: أما والله إني لأكون في البيت فتأتي على لساني ألف كلمة فإذا قمت على أعوادكم هذه، هي: أعواد المنبر، جاء الشيطان فمحاها من صدري ولقد كنت وما من الأيام يومٌ أحبُّ إليّ من يوم الجمعة، لعظمته وفضله، يقول: فصرت أغتم لذلك من أجل خطبتكم هذا.
فهو يتحدث عن نفسه وعن الثقل الذي تمثله له هذه الخطبة وهذه الكلمات لما لها من أمانة ومسؤولية.
إن الكلمةَ أمانةُ اءتمن الله عز وجل عباده عليها وقد ذكرنا منذ لحظات قول الله تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا قولاً محقاً صائباً وهذا أثرٌ من أثر تقوى العبد لربه تبارك وتعالى لأن الله عز وجل يقول مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فإذا فعلوا، اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
وتزداد خطورة الكلمةِ وأمانةُ هذه الكلمة حينما تضطرب على الناس أمورهم وتختلط عليهم أحوالهم، فحينئذٍ تصير الكلمةُ شيئاً عظيماً ومسؤولية كبيرة، إذ ربما حملت كلمة غير مسؤولة ؛ حملت عبداً على أن يسفك دماً ويسلب مالاً.
يقول الله عز وجل يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يأمر الله نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطب أُسارى بدر من المشركين، هذه الكلمات إنما يخاطب الله عز وجل بها أهل الكفر وأهل الشقاق وأهل الشرك وأهل المحادة لله عز وجل ولرسوله ولدينه وللمؤمنين قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وإن كانت الثانية وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ بأن يعدوا ثم لا يوفوا وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ هذا هو المال أنهم دفعوا مالاً في فكاك رقابهم وأنفسهم، فالله عز وجل يقول لهم، إن اطلع الله عز وجل من قلوبهم على خير فإنه سوف يعوضهم عن هذا المال الذي إنما دفعوه في فكاك أنفسهم أنه سوف يعوضهم عن هذا المال خيراً منه، يخلفهم مالاً بدلاً من المال الذي فقدوه، وفوق ذلك يمن عليهم بنعمة التوبة ونعمة الإيمان، وإن كانت الثانية، إن كانت القلوب غشاً وفساداً، فهم تحت سلطان الله عز وجل وقدرته وقهره وبطشه لا يخرجون من ملكه ولا من سلطانه.
وإذاً فالله عز وجل يعلم عباده فيقول: إنه إن انطوت نفوس العباد على الخير فلابد أن الله سبحانه وتعالى يعطيهم الخير وإن لم يكونوا على ذلك فإن الله عز وجل يعطيهم على مقدار ما في قلوبهم، وإذاً فعلى قدر ما في قلوبنا نحن من الخير على قدر ما ننتظر من ربنا تبارك وتعالى خيراً.
وإن لم نكن فإنما نؤتى على قدر ما نستحق، وقال الله عز وجل في ذات الصورة ؛ قبلها بآيات قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ إن يكفوا عما فعلوا وعما اجترموا فإن باب التوبة من الله تبارك وتعالى مفتوحٌ دائماً للمصلح.
فهو سبحانه وتعالى إن كان يعرض على أهل الكفر أن ينيبوا إلى ربهم تبارك وتعالى فغيرهم من الناس من باب أولى قال الله تبارك وتعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ” إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم “، فما ينتطر العباد من ربهم إنما هو أثرٌ وتبعٌ وثمرةٌ لما انطوت عليه قلوبهم.
قال صلى الله عليه وسلم ” ويلٌ للعرب من شرٍّ قد أقترب، فتح اليومَ من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق حلقة، فقالت زينب بنت جحش رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم .
قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ” الذين بهم يحفظ الله عز وجل البلاد والعباد، قال: ” نعم، إذا كثر الخبث “.
فالمجتمع إنما يعامل كوحدةٍ واحدة كلحمة واحدة ؛ يعامل على وفق حال أكثره وأغلبه.
يقول مجاهد رحمه الله أن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه خرج على الناس وهو محصور، قد كان إمام المسلمين، الخليفة الراشد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتين من بناته على التوالي، كان محصوراً في بيته، فخرج يخاطب من حصروه، فقال: لا تقتلوني فإني والٍ وأخٌ مسلم، فوالله ما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، أصبت أو أخطأت.
هو يقول إن قصده ونيته الخير والإصلاح ربما يوفق في بعض أموره وربما لا يوفق، ولذلك قال أهل العلم قديماً: ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأصابه.
ثم قال: فوالله لئن قتلتموني لا تصلون جميعاً أبداً، ولا تجاهدون عدواً جميعاً أبداً، ولا يقسم فيؤكم جميعاً أبداً.
وفي مرة أخرى قال: ولتختلفنَّ فلتصلنَّ هكذا، وشبّك بين أصابعه. فكان ما أخبر به رضي الله عنه وأرضاه، إذ وقعت الفتنة ووقعت الفرقة وانفرط عقد هؤلاء الناس.
ثم أرسل إلى عبدالله بن سلام رضي الله عنه يطلب منه النصيحة، فقال ابن سلام قال: الكف الكف، فإنه أبلغ لك في الحجة عند الله تبارك وتعالى حتى دخل هؤلاء عليه فقتلوه وهو صائم رضي الله عنه وقد نشر مصحفه يتلو كتاب الله تبارك وتعالى.
لقد أتى هؤلاء الناس ولهم اعتراضات ولهم مطالب، ثم ما لبسوا أن رفعوا سقف مطالبهم، ثم ما لبسوا ثانيةً أن رفعوه، إلى أن انتهوا إلى أن خيروه بين أمرين: بين أن يخلع نفسه أو أن يقتلوه.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه يوماً فناجاه بينه وبينه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عثمان؛ إن ألبسك الله قميصاً، فإن أرادك الناس على أن تخلعه فلا تخلعه.
ولذلك أبى أن يستجيب لهذا المطلب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك، ثم أنه دعا عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقال له: ما تقول فيما أوصاني به، أو نصحني به المغيرة بن الأخنس، قال: وما أوصاك وما نصحك، قال: إن هؤلاء القوم أرادوك على أن تخلع نفسك فإن لم تفعل فإنهم قاتلوك، فاترك لهم أمرهم.
فهو يستشير عبدالله بن عمر في هذا أيفعل أم لا، وقد تقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولكنه يريد أن يرى رأي أصحابه، فقال ابن عمر: قال إن لم تفعل أيزيدون على أن يقتلوك، قال: لا، قال: فلا تفعل, إن فعلت يوشك الناس كلما سخط قومٌ على أميرهم خلعوه فلا يتم لهم أمرٌ ولا يستقر لهم قرار، فكأن ابن عمر رضي الله عنهما وهو لا يعلم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان كأنه يضمن هذه الكلمات العلة التي من أجلها أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستجيب، لأن هذا يفتح من أبواب الشر والسوء أشد مما يخشى مما لو استجاب لهذا المطلب.
ويقول أبو جعفر القارئ: كان المصريون الذين حصروا عثمان رضي الله عنه ستمائة رجل على رأسهم عبدالرحمن بن عنيس البلوي وكنانة بن بشر الكندي، وعمرو بن الحارث الخزاعي، ثم قدم مئتان من أهل الكوفة على رأسهم مالك الأشطم النخعي ومائة من أهل البصرة على رأسهم حكيم بن جبلة العبدي.
يقول أبو جعفر: وكانوا يدً واحدةً في الشر وكانوا حثالة من الناس قد ضووا إليه، أي: انضموا إليه، قد برجت عهودهم وأماناتهم مفتونون. ثم يقول: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خذلوه _يقصد تقاعسوا عن نصرته_ قد كرهوا الفتنة وما رأوا أن الأمر قد يبلغ إلى قتله، فلما انتهى الأمر إلى ما رأوا ندموا على ما فرطوا في أمره، ولعمري لو قاموا أو قام بعضهم في وجوه هؤلاء فحثل في وجوههم التراب لأنصرفوا خاسرين ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
هو يخبر عن الحال الذي كان في ذلك الوقت، عثمان رضي الله عنه يظهر الرحمة والرقة واللين ويستجيب للناس في حدود ما يطيق ويعتذر إليهم المرة تلو المرة، ويستجيب لما يطلبوا ؛ وهم كلما انتهوا إلى أمر صعدوا إلى آخر.
ثم حصروه رضي الله عنه وكان الصحابة في المدينة رضي الله عنهم لا يرون أن الأمر يصل إلى هذا الذي وصل إليه من الشر والسوء ولذلك تهاونوا في هذا الأمر ؛ لكنهم لما أدركوا في أخريات الوقت أنهم جادون عازمون على أمرهم ؛ حينئذٍ أتى إليه عليٌّ وطلحة وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعبدالله بن الزبير، والحسن بن علي، والحسين بن علي، ومحمد بن جعفر، والمغيرة بن الأخنس يطلبون أن يدافع عنهم وأن يقاتلوا هؤلاء، وأرسل إليه عبدالله بن عامر من البصرة، وأرسل إليه معاوية بن أبي سفيان من الشام، وأرسل إليه عبدالله بن سعد بن أبي السرح، أن يرسلوا إليه جيوشاً لحمايته، لكنه أبى ذلك وأبى أن يريق محجمة دمٍ يكون مسئولاً عنها أمام الله عز وجل وعزم على كل من أراد الدفاع عنه إن كان له عليه حكم وأمر وسلطان، أن ينصرف إلى بيته.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي قُتل فيه في المنام فقال: يا عثمان إنك تفطر عندنا الليلة، فأصبح صائماً ونشر مصحفه يقرأ كتابه حتى دخلوا عليه فقتلوه.
فيقول أن هؤلاء الصحابة لم يكونوا يدركون أن الفتنة تصل إلى ما وصلت إليه وهكذا هو أمر الفتنة؛ يأتي شيءٌ بسيط يسير ثم يتفاقم في سرعةٍ ولا يدرك الناس خطر الأمر أو شدته أو صعوبته حتى يقع المحذور وحينئذٍ تضطرب الأمور وتقع الفتنة ولا يملك العقلاء أن يأخذوا على أيدي السفهاء.
ولذلك وقعت هذه الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، ولكنهم لما وقع الشر وظهر السيف لم يستطيعوا أن يحكموا أمرهم، لم يستطيعوا أن يأخذوا على أيدي هؤلاء الناس.
وخرج سعد رضي الله عنه حتى دخل على عثمان وهو محصور ثم خرج من عنده، فرأى ابن عنيس أمير أهل مصر، ومالك بن الأشطر أمير أهل الكوفة، وحكيم بن جبل أمير أهل البصرة، رآهم مجتمعين.
فقال: إن امرءاً من الناس هؤلاء رؤساؤه لامرء سوء، الذي يرتضي أن يجعل هؤلاء أمراءً له و رؤساء ويترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا امرء سوء.
وإذاً ؛ فإذا وقعت الفتن واشتدت ولم يكن ثمّ معالجةٌ صالحةٌ حكيمة ولم يكن ثمّ قوةٌ في موضع القوة، ولينٌ في موضع اللين، حينئذٍ يكون الشر والفساد.
إن عثمان رضي الله عنه لحلمه ورحمته ورقته آثر أن يكون ضحية هذه الأحداث، آثر أن يقي المسلمين بنفسه، وكان مشكوراً محموداً رضي الله عنه، وأخذ بوصية عبدالله بن سلام، وكان مشكوراً محموداً رضي الله عنه.
لكن آثار ذلك التي ترتبت عليه كانت في حساب السياسة فرقةً وشراً وفساداً وربما لو ترك هؤلاء الصحابة الذين رأوا أن يدرءوا هذه الفتنة وإن كانوا قد تأخروا، ربما كان هذا خيراً للأمة وأرحم بها، ولكن غلبة رحمته ورقته رضي الله عنه.
ثم وقعت الفرقة والشر والفساد، قال الله تبارك وتعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حينما كانت الكلمة مجتمعة حينما كانت الغاية واضحة، حينما كانت إزاحة الظلم واحقاق الحق كانت هي السائدة حينئذٍ كان وعد الله عز وجل وعد الصدق.
حتى إذا غيرنا نحن وإذا بدلنا نحن وإذا تنازعنا نحن وإذا وقعت بيننا الفرقة والشقاق وظهرت الأهواء والمصالح الشخصية حينئذٍ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ إن الله عز وجل لا يخلف وعده إن الله عز وجل لا ينكث ميثاقه، إن الله عز وجل يعطي الناس خيراً طالما أنهم يريدون خيراً، طالما أنهم يتقون خيراً،طالما أنهم يحقون حقاً، أما إذا ما فشلوا، أما إذا تنازعوا، أما إذا ما تناحروا، أما إذا تركوا للفتنة باباً، فإن هذا الباب الذي فتح فإنه لا يسد، ولا يسلم أحد إلى أحد، وإنما باب الشر والاقتتال، إن مقتل عثمان رضي الله عنه بقي الناس بعده خمس سنوات في تطاحن واقتتال حتى إن علياً رضي الله عنه وهو من هو في مكانه وفي مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دين الإسلام، وأنه كان ثالث ثلاثة أسلموا أولاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له قدم الصدق التي نعرف، لم يستطع عليّ وهو من هو أن يجمع الكلمة، لم يستطع أن يدرء الفتنة، لم يستطع أن يحفظ الدماء، فإن لم تعالج في التوقيت الذي أن تعالج فيه، فحينئذٍ لا يلومنّ العباد إلا أنفسهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله,
الحمد لله رب العالمين.
إن الله عز وجل قد جعل لنا كتاباً هادياً، وجعل لنا رسولاً سراجاً منيراً، وجعل لنا أئمة نهتدي بهم وجعل لنا تاريخاً نعتبر به ونتعظ في نقاط قوته وفي نقاط ضعفه، في لحظات الاجتماع وفي لحظات التفرق والاختلاف.
ولا ينبغي أن تعيد الأمة كرات شرها وفسادها جيلاً تلو جيل.
وآخر ما نقول، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه مسلم عن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” عبادة في الهرج كهجرة إليّ ” وفي رواية في المسند عن معقل أيضاً ” عبادةٌ في الفتنة كهجرةٌ إليّ ” وفي رواية ثالثة ” العمل في الهرج كهجرة إليّ “، لماذا؟ لماذا كانت العبادة في أوقات الفتن والاختلاط كانت بمثابة أن يهاجر المرء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
والهجرة في الإسلام والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عملٌ من أعظم أعمال الإسلام، لماذا جعلت بهذه المثابة وبهذه المنزلة؟
إنه في هذه الأوقات تشغل الناس هذه الملمات وتصدهم وتشغلهم عن عبادة الله عز وجل وتنسيهم ذكره تبارك وتعالى وتنسيهم أمره، وربما تنسينا أن الأمر كله لله، ربما تنسينا أنه على مقدار ما تعتصم بالله، على مقدار ما يجلب الله لنا الخير والبر، وعلى مقدار ما نتوسل إليه تبارك وتعالى وعلى مقدار ما نتوجه إليه على مقدار ما يدرء عنا الشر والسوء، فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ففي هذه الأوقات الذي يفيء إلى الله تبارك وتعالى الذي يتوجه إلى الله، الذي يعتصم بالله، الذي يرفع يديه إلى الله عز وجل طالباً منه الرحمة والبر وهو سبحانه وتعالى أهل الرحمة وأهل البر وأهل الإحسان، فإن الله عز وجل لا يخيب رجاؤه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل هذا العمل بمنزلة المهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما كانت هذه الهجرة لا تقل منزلةً عن الأولى بل ربما كانت أصعب، لأن الذي يهاجر بجسده وبدنه من مكان إلى مكان يسهل عليه أن يستقيم في مكان هجرته، يعني لازم يهاجر من مكة إلى المدينة، هو يأوي في المدينة إلى جمعٍ من الناس من أهل الإيمان وأهل الإحسان وأهل البر يعينونه على هذه الطاعة.
أما الذي يهاجر بقلبه وحده في زمن الفتنة ربما كانت هجرته أقسى وأشد وأصعب، كأنه لا يستطيع أن يخرج ببدنه من وسط الناس هو يعيش وسطهم، يعيش ما يعيشون، يشغله ما يشغلهم، يخيفه ما يخيفهم، يفزعه من مستقبل أيامه ما يفزعهم، لكنه يجاهد مع ذلك لكي ينسحب بقلبه من هذا الوسط، ويعلق قلبه بربه تبارك وتعالى واثقاً في فضله واثقاً في برّه، واثقاً في رحمته.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصينا إذا ما وقعت هذه الملمات بأن نهاجر إلى الله تبارك وتعالى بقلوبنا، بالعبادة والضراعة واللجوء إلى الله والاعتماد عليه تبارك وتعالى والثقة، لأن الله عز وجل كما قلنا في أول خطبتنا إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا
إن دماءاً قد بذلت وأرواحاً قد أزهقت في سبيل خيرٍ أو برٍّ وإصلاح، فإن الله عز وجل لا يضيعها، لايمكن أن الله سبحانه وتعالى يضيع هذه التضحيات ويضيع هذه الدماء التي بذلت في سبيل خيرٍ ورفع ظلم، ولكن كما قلنا ؛ إذا غيرنا غُير علينا، وإذا بدلنا بدل لنا، وإذا بقي أُناسٍ لازالوا على استعدادٍ أن يقدموا أرواحاً ويبذلوا دماءاً في سبيل إحقاق حقٍّ فإن الله عز وجل لا يضيع هؤلاء أيضاً، وسوف يؤتيهم خيراً كثيراً، فعلى مقدار ما نريد نحن من خير على مقدار ما يعطينا الله سبحانه وتعالى من خير ,
وأختم بقوله تبارك وتعالى ولا ينبغي أن ننساه، قال تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ليس لنا مستندٌ ولا معتمدٌ إلا هو تبارك وتعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ففروا إلى الله ,
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر الله منها وما بطن،اللهم جنبنا الفتن ما ظهر الله منها وما بطن.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، نسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، نسألك القصد في الفقر والغنى، نسألك نعيماً لا يفند وقرة عينٍ لا تنقطع، نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداةً مهتدين اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداةً مهتدين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضليين، سلماً لأوليائك، حرباً لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك.
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.