الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
بسم الله الرحمن الرحيم لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ حدث شيء، لأ عادي.
قال تعالى آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
وماذا بعد أيضاً لا شيء.
أما هم فقد كان لهم مع هذه الآيات شيءٌ آخر سوف نخترق حجب الزمان لنصل إلى الزمان الأول، إلى زمان تنزيل هذه الآيات لنعايش لحظات نزول هذه الآيات وكيف كان الشأن مع هذا التنزيل، وهذا بذاته من فضل الله عز وجل علينا ورحمة أن سطّر لنا وسجّل لنا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحظات التنزيل ومواطنه تسجيلاً دقيقاً بحيث نستطيع أن نتصور هذا حقّ التصوّر وأن نترسّم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظةً بلحظة.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه فيما رواه مسلم، يقول:لما نزل قول الله تبارك وتعالى لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب هذه الآية التي تلوناها قبل كما نتلوا ونرتل آيات الله سبحانه وتعالى حينما نقرأ في المصحف نفس هذه الآية التي نقرأها ونمرّ عليها كما نمرّ على غيرها من الآيات فلا تستوقفنا ولا نلتفت فيها إلى شيء، لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الناس معها شيء آخر، لما نزلت هذه الآية بنصّها وفصّها الذي قرأناه يقول أبو هريرة اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله، أي عظم عليهم وقع هذه الآيات ولم يخصّ بذلك أبو هريرة رجلاً أو رجلين أو ثلاثة من عموم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل جعل هذا وصفاً عاماً أنهم حينما سمعوا هذه الكلمات أسرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب وهذه الجِلسة جِلسة المستشفع جِلسة المتضرع، جلسة المتوسل، لذلك قال الله تبارك وتعالى في وصف مجيء الأمم يوم القيامة وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كل أمة تدعى إلى كتابها ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد، الصدقة، أن هذه الأعمال وإن كانت تبدو شاقّةً حتى أنهم عدّوا منها الجهاد الذي قد يخرج المرء فيه فلا يعود بماله ولا بنفسه، ولكن رأوا هذا شيئاً مطاقاً يستطيعون أن يتحملوه وأن يقوموا به ويمتثلوا أمر الله عز وجل فيه.
” كلّفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها ” لماذا لأن الله سبحانه وتعالى يقول وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أي أن الإنسان سوف يحاسب على خطرات نفسه وعلى ما يجول في صدره وإن لم يعمل أو يتكلم وهذا رأوه شيئاً عظيماً لا يطاق لأن الإنسان تختلج في نفسه أمور وترد عليه وساوس وأفكار وخطرات يدافعها ويذبها عن نفسه ويستعيذ بالله عز وجل منها فإذا حوسب على ذلك فإنه هالك لا محالة، فهم حينما نزلت الآية تفكّروا فيها وفي حالهم معها فرأوا أنهم لا يطيقون ذلك فأسرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بركوا على ركبهم، ذكروا هذه الكلمات ” وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فبماذا أجاب رسول الله، قال: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا، ولكن قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ” .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم ما قالوا وحذّرهم من مغبّة ذلك وذكّرهم أن مقتضى الإيمان أن يسلموا لكل أمر نازل من عند الله تبارك وتعالى ويسألون الله سبحانه وتعالى العفو والعافية ” قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا ” أي أننا لو أصابنا شيءٌ من التقصير في امتثال هذا الأمر فنسألك يا ربنا أن تغفر لنا وترحمنا، وإليك المرجع والمصير فاستقبلنا حينما نرجع إليك استقبال المؤمنين استقبال التوبة والعفو والمغفرة.
يقول أبوهريرة: فاقترأها الصحابة، حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات، قرأوها حتى ذلّت بها ألسنتهم أي رددوها وكرروها فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية التي بعد آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَمدحاً لهم على امتثالهم لأمر الله عز وجل وإن رأوه أمراً صعباً قد لا يطيقون تنفيذه آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وقالوا، أنزل الله عز وجل مصداق قولهم الذي قالوا وكلماتهم التي تكلموا بها، الكلمات التي لقنهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بها بذاتها التنزيل من رب العالمين تبارك وتعالى وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ يقول أبوهريرة فنسخها الله تبارك وتعالى فأنزل قوله لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ أي من أفعال، أن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذهم على ما حدثوا به أنفسهم لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عمّا تحدّثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم، تخرج في صورة فعلية، يقول شيء أو يفعل شيء، أما حديث النفس وخطرات النفس وهواجس النفس فالله عز وجل بفضله ورحمته عفى عنه فلم يؤاخذ به عباده.
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ثم لقننا أن نقول رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فقال الله عز وجل من فوق سبع سماوات مجاوباً قال: نعم، وفي رواية: قد فعلت، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا أي أغلالاً وأثقالاً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قال الله تبارك وتعالى :قد فعلت، رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قال الله تبارك وتعالى قد فعلت، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قال الله تبارك وتعالى قد فعلت، فهذه الآية التي أنزلها الله تبارك وتعالى أولاً: إنما كانت مجرد اختبار للإيمان والتسليم ولم يكن المقصود التكليف العملي بمقتضاها، وإنما كان اختبار إيمان المؤمنين، أيقبلون ويسلمون وإن رأوه صعباً عليهم أم يرفضون ويعرضون ويردون أمر الله عز وجل فكان هذا اختبارً إيمانياً ليس اختباراً عملياً، كما ذكرنا قبل في خطبة سابقة أمر الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام عبر الرؤية التي رأى أن يذبح ولده اسماعيل عليه السلام، قال تعالى فَلَمَّا أَسْلَمَا أسلما، تسليم لأمر الله سبحانه وتعالى فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ جعله على وجهه وأخذ السكين بيديه وشحذها، فحينئذٍ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ الصعب وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ إذاً كان المقصود ليس الذبح، ليس قتل الولد، وإنما اختبار الإيمان والتسليم وإيثار حب الله عز وجل على محبّة الولد فلما اجتازا معاً هذا الاختبار، قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وضعه على وجهه، لأن هذا أبٌ لازال يقع في قلبه مشاعر الرقة والرحمة، هو لن يقدر أن يرى وجهه وهو يذبحه، هو واضع وجهه في الأرض، سوف يذبحه من ظهره لأنه لن يقدر مع تسليمه للأمر وتنفيذه له في لحظة تنفيذه هو لن يقدر ينظر في عينيه، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
فالله عز وجل إنما أمرهم بهذا الأمر اختباراً للإيمان والتسليم الذي تنطوي عليه قلوبهم.
نحن في بداية كلماتنا قرأنا هذه الآيات من كتاب الله كما نقرأ ونردد دائماً، فنحن حينما نقرأ هذه الآيات ونرتلها كغيرها من الآيات، هي لن تستوقفنا قط، بينما حينما تنزلت استوقفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة الصحابة وقع في قلوبهم جميعاً هذا الأمر نفس الموقع فأسرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بركوا على الركب ذكروا هذه الكلمات التي تفيد أنهم ترجموا هذه الآية إلى أمرٍ عملي، وواقع فعلي فرأوا أنفسهم ربما لا يطيقون هذا فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون التخفيف عنهم لأنهم لا يطيقون، فأنزل الله عز وجل بعد هذه الآيات العظيمة التي جاء فيها ما يبيّن عظيم قدرها وعظيم فضل الله عز وجل بها، تقدير والثناء على النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بما لهم من الإيمان، الإيمان الذي ترتب عليه الاستسلام والتسليم الذي هو حقيقة الإسلام هذا الإسلام والاستسلام والتسليم ترتب عليه هذا الفضل العظيم من الله تبارك وتعالى بهذه الكلمات التي تنزّلت والتي أجابهم الله عز وجل بأنه سبحانه وتعالى قد لبى نداءهم واستجاب دعاءهم، وخفف عنهم وحقق لهم ما يريدون، فالله عز وجل إذا قابلنا أمره بالتسليم قابل تسليمنا بالتيسير والتخفيف والإجلال والثناء والتكبير.
في صحيح مسلم عن ابن عباس، قال بينما جبريل عليه السلام قاعدٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع نقيضاً فوق رأسه، نقيض أي صوت الباب إذا فتح أو أغلق بقوة فنظر جبريل عليه السلام فقال: هذا باب من السماء فتح لم يفتح قبل اليوم قط فنزل منه ملك، فقال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ملكٌ نزل إلى الأرض اليوم لم ينزل قط قبل اليوم فجاء هذا الملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم عليه ثم قال: أبشر بالنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌّ قبلك؛ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
فهذه الآيات، الآيتين من خواتم سورة البقرة إضافة إلى سورة الفاتحة بشر هذا الملك الكريم الذي نزل خصيصاً من السماء لهذه البشارة وفقط، ليدل على عظمة هذه البشارة أنه قال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌّ قبلك، أي هذه الآيات العظيمة لم تتنزل في هذه العظمة قط في كتاب سبق.
فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته ولذلك جاء في صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: قسمت الصلاة – أي الفاتحة – وسميت صلاة لأنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب.
قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تبارك وتعالى :حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله تبارك وتعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال الله تبارك وتعالى: مجدني عبدي، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تبارك وتعالى: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، بيني وبينه، أي الآية مقسومة نصفين؛ إياك نعبد: هذا حقّ الله، نحن نقرّ بأننا عباد لله حريصون على إقامة العبادة لله، اعترافاً لله عز وجل بهذا الحق العظيم، فهذا الجانب لله
وإياك نستعين نطلب من الله تبارك وتعالى أن يمدنا بالعون لكي نستطيع أن نقوم بهذه العبادة، فإن الله عز وجل إذا لم يعن العبد على عبادته فإنه لا يطيق ذلك، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: يا معاذ والله إني لأحبك فقال معاذ: يا رسول الله وإني والله لأحبك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ هذه الكلمات ويكأنه يعبّر عن محبته له بأن أهداه هذه الهدية، فقال: يا معاذ لا تدعنّ أن تقول دبر كل صلاة – بعدما تنتهي من صلاتك – اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. فأوصاه بهذه الوصية أن يسأل الله سبحانه وتعالى الإعانة على الذكر، الإعانة على الشكر، الإعانة على العبادة، فإنه إن لم يكن عونٌ من الله عز وجل للعبد فإنه لا يطيق عبادة الله ولا يطيق النجاة من تخبّط الشيطان، فقوله تعالى ” إياك نعبد وإياك نستعين ” مقسوم قسمين لذلك قال الله تبارك وتعالى هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، أي قوله ” إياك نستعين ” ، فإذا قال العبد ” اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ” قال الله تبارك وتعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، لذلك قال الملك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته، لأنه سؤالٌ ورجاءٌ وطلب لله تبارك وتعالى فالله عز وجل قد استجاب لهذا السؤال وهذا الرجاء وهذا الطلب كما في هذه الآيات
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال الله قد فعلت، أعطاهم ذلك، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قال الله تبارك وتعالى قد فعلت أعطى ذلك رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قد أعطى ذلك، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قال الله تبارك وتعالى قد فعلت فأعطى الله عز وجل ذلك.
فإذاً هذه الآيات العظيمة كان لها شأنٌ عظيم حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي مسعود عن البخاري ” الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه ” ولم يقل صلى الله عليه وسلم كفتاه من أي شيء، جعلها هكذا عامة ملطلقة تكفيه ما أهمه ما أغمه، تكفيه حسنه، تكفيه عن قيام الليل، جعلها عامة لبيان عظيم هذا.
وجاء أيضاً في مسند أحمد عن أبي ذرّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهنّ نبيٌّ قط.
فإذاً هذه الآيات العظيمة تحمل هذه المنّة العظيمة، إنما كانت أثراً لاستجابة الصحابة لأمر الله عز وجل وكانت هذه الاستجابة أثراً لتدبّرهم لكتاب الله لعرضهم لأنفسهم على كتاب الله، هم كانوا يتلقون الآيات بتفكّرٍ وتدبّرٍ وتبصّرٍ ولذلك وقعت هذه الآيات في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موقعها فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبرهم فردّ عليهم رده صلى الله عليه وسلم حتى أنالهم الله عز وجل ذلك
لذلك الله عز وجل وصف قراءة المؤمنين للقرآن فقال اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا متشابهاً أي كله متماثل في علو قدره وعظمته وما فيه من خيرٍ وبركة ونعمة وفضل، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ أي يثنى ويقرأ ويكرر في كل وقتٍ وحين، هذا حق القرآن على عباد الله الذين آمنوا به، أن يثنوه أي: يكرروا قراءته في كل وقت وحين، مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ القشعريرة والاضطراب من خشية الله عز وجل لآيات العظمة في الكتاب للآيات التي فيها التخويف والوعيد من عذاب الله، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فذكر وصفهم أنهم يضطربون من خشية الله ثم يسكنون لما يذكر في الكتاب من رحمة الله ومن فضل الله ومن ثواب الله عز وجل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإذاً فكيف السبيل إلى تضييق هذه الهوة وهذه الفجوة الواسعة بيننا وبين النموذج المثال، بيننا وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية التلقي لكلام الله، في كيفية التأثر والتفاعل مع كلام الله عز وجل، كيف يكون حالنا قريباً من حالهم.
هناك أمور تعين على ذلك، الأول: في مستدرك الحاكم عن ابن عمر أنه قال: لقد مكثنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، فإذا أنزلت السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلمنا حلالها وحرامها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلمون السورة من القرآن.
يقول ابن عمر: أنهم حين أنزل الله عز وجل عليهم هذا الوحي وهذا الدين، علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عرّفهم بالله وبعظمة الله تبارك وتعالى، وبحق القرآن وذكّرهم باليوم الآخر ولقاء الله، قاستقرت هذه المعاني في قلوبهم أولاً، ثم قرأوا كتاب الله عز وجل فثّبت هذه المعاني في قلوبهم واستقبلوه استقبال المؤمنين فكانوا يقفون عند آيات القرآن يتعلمون أحكام القرآن، يحلّون حلاله ويحرمون حرامه، يقول ابن عمر ” كما تتعلمون أنتم السورة من القرآن ” يعني كما نتعلم نحن القراءة هم يتعلمون المعاني والتفسير ليقفوا على آيات الله تبارك وتعالى
ثم يقول: ولقد رأيت رجالاً – أي من التابعين – يؤتى أحدهم القرآن – بيحفظ القرآن – فيقرأه من فاتحته إلى خاتمته – من أو الفاتحة إلى الناس – لا يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه ينثره نثر الدقل، الدقل: هو التمر الرديء الذي ليس له ثمن ولا قيمة فيرمى لأنه لا يوجد من يشتريه فيلقونه على الأرض، فكأنه ينثر الآيات الربانيات العظيمات، نثر الدقل، أي لا يعبأ بها ولا يهتم، فهو يقول أن العلّة عندهم في حسن استخدام الإيمان، سبق الإيمان للقرآن، لذلك نحن لابد أن نتعلم معاني الإيمان لكي نتأثر بالقرآن، ولذلك أحياناً كثيرة كثير من الناس لحسن نيتهم وحرصهم على صلاح أولادهم يشرعون ويبدأون بأن يجعلوا أبناءهم يحفظون القرآن، فربما حفظ الولد كثيراً من القرآن لكنه لا يرتب هذا أثرٌ عليه لأنه كما يقول ابن عمر، يؤتى العبد القرآن قبل أن يؤتى الإيمان فيقرأه فلا يتأثر به ولا يتّعظ ولا يدرك عظمته فالإيمان أولاً معرفة الله تبارك وتعالى وتعظيمه أولاً، معرفة قيمة القرآن وأنه كلام الله أولا، معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، معرفة اليوم الآخر ولقاء الله أولاً، ثم تأتي هذه الآيات فتقع موقعها وتعمل أثرها.
قال أيضاً جندب بن عبدالله رضي الله عنه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلمانً حزاورة، – حزاورة: في بداية سنّ الشباب – فتعلمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان ثم تعلّمنا القرآن، فلما تعلّمنا القرآن ازدادنا به إيمانا.
هذا هو الأمر الأول: الإيمان قبل القرآن.
الأمر الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حين يعلم كتاب الله، لم يكن يزيد في تعليمه على الخمس والعشر آيات لأنه كما قال الله تبارك وتعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ليس هو بالشيء الهيّن اليسير ولذلك يقول أبو عبدالرحمن السلمي كما في مسند أحمد يقول: حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا إذا اقترأوا لم يتجاوزهنّ إلى العشر آيات الأخرى أي التي تليها من السورة حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جيمعاً، فهم كانوا لا يتجاوزون هذا المقدار لإحساسهم بعظمته وثقله وعظم المسؤولية عنهم فلا يكثرون من القراءة حتى يقوموا بشيء من حق الآيات التي تلوها، فإذا أحسوا أنهم قد قاموا بشيءٍ من حقّ هذه الآيات، أتوا هم أنفسهمإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلبون المزيد، لم يكن هو يبحث عنهم ويطلب منهم أن يأتوا لتعلم القرآن أو حفظه، هم يستشعرون أن هذا مسؤولية شخصية عليهم فهم يقومون بالواجب عليهم من دون حثٍّ ولا تشجيع، لأنهم يدركون عظمة المتنزل من الله تبارك وتعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أقرأ القرآن أقرأ بهذه المقادير التي ترتب مع هذه المنهجية من العلم والفهم والتدبر والعمل تعظيماً وامتثالاً لكلام الله تبارك وتعالى
النقطة الثالثة والأخيرة: قضية الترتيل، قال تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا الترتيل أي الترسل والتمهل، بيقرأ بروية وهدوء، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ أي فصّلناه، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ يعني شوية شوية، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا الترسل والتمهل في القراءة ليعطي الإنسان نفسه فرصة لكي يتفهم هذه الآيات.
تقول حفصة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها يعني يقرأها بتمهل وترسل حتى تأخذ زماناً طويلاً أطول من لو قرأ سورةً أخرى قراءةً عادية متوسطة، كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، ولذلك كانت هذه الآيات تقع موقعها وتؤثر أثرها، يقول ابن مسعود رضي الله عنه:: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل، قال إني أحب أن أسمعه من غيري، قال فاقترأت النساء، بدأ يقرأ في سورة النساء حتى إذا بلغت قول الله تبارك وتعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا قال: حسبك، قال: فنظرت فإذا عيناه تزرفان صلى الله عليه وسلم.
وفي مستدرك الحاكم عن ابن عباس، قال: قال أبوبكرٍ: يا رسول الله قد شبت – ظهر البياض في الشعر الأبيض في رأسه صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت.
أي قراءة هذه، النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه قد ظهر المشيب في رأسه بدا هذا بشعرات بيض في رأسه صلى الله عليه وسلم من تأثير ووقع الوقع العظيم لهذه الآيات والعجيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقاه إليه سريع عدد له سوراً بعينها، فهو صلى الله عليه وسلم مدركٌ أي هذه الآيات كان أكثر وقعاً، أي هذه الآيات كان أكثر تأثيراً عليه صلى الله عليه وسلم، أي هذه الآيات هو الذي أدى لمشيب شعر رأسه صلى الله عليه وسلم، لم يفكّر ولم يتدبّر ولم يتأمل في هذه اللحظات، بل أجاب مباشرة، وسمى سوراً بعينها.
قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت.
لذلك كان عثمان رضي الله عنه كل يوم ينشر مصحفه – أي يفتحه – فيقرأ في كتاب الله عز وجل من صلاة الصبح إلى صلاة الظهر، ويكثر بكاءه عند القراءة فقيل له ألا ترفق بنفسك، فقال رضي الله عنه: لو صفت قلوبنا ما شبعنا من كتاب ربنا، لو صفت قلوبنا ما شبعنا من كتاب ربنا.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا.
اللهم فقهنا في ديننا، اللهم علمنا تأويل كتاب ربنا.
اللهم إنا نسألك علما نافعاً وقلبا خاشعا ويقيناً صادقاً ولسانا ذاكرا وعملا صالحاً متقبلاً.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم