إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد ،،،
كنا قد أخذنا قبل في حديث الصبغة الإلهية وكان مرادنا أن نقول إن الله عز وجل بما بثّه من إيمانٍ وبما أنزله من كتاب صبغ مجتمع المؤمنين الذي استجاب لنداء الإيمان بصبغةٍ ثابتةٍ راسخةٍ هي صبغة الإيمان التي شملت هذا المجتمع بكل طبقاته وبكل درجاته لم تستثني منهم أحد، وتوسّعنا نوعاً ما في عرض أمثلةٍ ونماذج على مدى خطبتين أو ثلاثة ولم نجتزئ أو نقتصر على مثالٍ أو مثالين لأن أي إنسان يريد أن يدلل على وجود ظاهرة ما في مجتمع ما فعليه أن يستقرئ حال هذا المجتمع وأن يورد الأمثلة المتكاثرة التي تثبت حقيقةً أن هذا هو الأصل وليس وضعاً أو حالاً استثنائياً في هذا المجتمع، فكانت الأمثلة من واقع الذين غلبت عليهم المعاصي والذين سلكوا مسلك السرقة والاعتداء وغير ذلك من النماذج التي نراها نحن بعيدةً كل البعد عن الإيمان وأصوله وحقائقه وهذا الحديث يبقى عبثاً من العبث لا طائل من ورائه ولا نفع منه إذا لم نبحث بعد ذلك عن الكيفية التي شكّلت هذا المجتمع بهذا التشكيل، نحن لن نستفيد شيئاً كثيراً من رصد هذه الظاهرة إلا إذا بحثنا كيف تكونت،كيف استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعون الله وتوفيقه وتأييده أن يصبغ هذا المجتمع بهذه الصبغة التي بقيت صبغة ثابتة لهذا المجتمع على مدى هذه القرون المتطاولة حتى وصلت إلى يوم الناس هذا، مجتمعٌ ذو لون واحد، تلون كله بلون الإيمان ولماذا حال هذا اللون في أيامنا فصار مجتمعنا الذي نعيش فيه يومنا هذا مجتمعٌ متعدد الألوان، متعدد الأصباغ،متعدد الاتجاهات، يتناقض ويتعارض بعضها مع بعض، هذا هو السؤال الذي نحاول أن نبحث له عن جواب.
الله سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الصبغة قال قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثم قال تعالى صِبْغَةَ اللَّهِ
يبقى إذاً هذا الإيمان وهذا الإسلام والاستسلام لله عز وجل وحده كان هو حقيقة الصبغة التي صبغ الله عز وجل بها هذا المجتمع فأورثته هذه الحقائق وهذه المعاني التي ذكرنا والتي نذكر وسنذكر بإذن الله عز وجل لقد سبق معنا قبل أربع خطب ذكر مفاوضة عتبة بن ربيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرناها ولم نبلغ فيها إلى ما نريد ففي هذه المفاوضة كما عند الحاكم وأبي يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن قريشاً اجتمعت وقالت انظروا أيّكم أعلم بالسحر والشعر والكهانة فيأتي إلى هذا الرجل – أي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكلمه وينظر ما يرد عليه، فقالوا ما نعلم أحدٌ منّا أعلم بهذا إلا عتبة بن ربيعة، قالوا أنت يا أبا الوليد اذهب إليه فكلمه.
إن قريشاً كانت تملك في مجتمعها هذا السلطة والسطوة والقهر والغلبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه في عداد المضطهدين المستضعفين الذين لا يملكون نقيراً ولا دبيراً ولا قطميرا، وليس لهم في واقع مكة السياسي أو الاقتصادي أي وزنٍ أو قيمةٍ مؤثرة ومع ذلك كانت قريش هي الحريصة على أن تسعى إلى رسول الله هي الحريصة على أن تفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الحريصة على أن تصل معه إلى حلٍ وسطٍ يغاير الحال الذي كانوا عليه في هذه اللحظات، مع أن مقتضى العقل والمنطق أن هؤلاء المستضعفين هم الذين ينبغي أن يسعوا إلى هذا التفاوض ينبغي أن يسعوا إلى تغيير واقعهم، ينبغي أن يسعوا إلى أن يرفعوا عن كاهلهم أثقال الضغط التي تضغطه عليهم قريش بقوتها وسلطانها وسطوتها، لكن الواقع كان على عكس ذلك تماماً.
فيأتي عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكلمه بكلام فيه الإساءة وفيه التجاوز فيقول له أولاً مفاضلاً بينه وبين أبيه وجده لأن الإنسان في طبيعته يكون معظّماً للآبائه وأجداده، فقال: يا محمد أنت خيرٌ أم عبدالله، أنت خيرٌ أم عبدالمطلب، إن كنت تزعم أن هؤلاء خيرٌ منك، فقد كانوا يعبدون الآلهة التي عبت،وإن كنت تزعم أنك خيرٌ منهم فتكلم حتى نسمع ما تقول، ثم ذكر أثره عليهم؛ قال: فما والله رأينا سخلة – سخلة :الغنمة الصغيرة؛ انتقاصٌ وتحقير – هي أشأم على قومك منك، لقد عبت آلهتنا وسببت آباءنا وشتت جماعتنا وفرّقت أمرنا وفضحتنا في العرب حتى لقد صار فيهم إن في قريشٍ لشاعر وإن في قريشٍ لكاهن، ثم عرض عليه أموراً، قال: فإن كنت تريد بما جئت به الملك ملّكناك علينا، وإن كنت تريد الشرف؛ سوّدناك حتى لا نبرم أمراً دونك، وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كان ما كان بك هو الباءة – الرغبة في النساء – جمعنا لك حتى نزوجك عشرة ممن شئت من نساء قريش، وإن كان الذي يأتيك رئياً من الجنّ جمعنا لك من أموالنا وطلبنا لك الطب.
فهنا عتبة يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج قريش من أموالها إليه وليس أعزّ على الإنسان من ماله الذي جمع واكتسب، أن تخرج قريشٌ عن ملكها وسلطانها إليه وليس أشرف ولا أطلب للإنسان وأرغب له من الملك والسلطان، فما هو الشيء الذي يحمل قريشاً على أن تخرج عن ملكها وعن سلطانها وعن أموالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع ما له، كل ما يريدونه أن يدع ما له.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعرج على شيءٍ من هذه الكلمات بل قال أفرغت يا أبا الوليد، – لا تريد أن تقول شيئاً آخر – قال:لأ، قال: فاسمع مني، فتلا عليه القرآن، تلا عليه آيات من صدر سورة فصّلت حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَحينئذٍ قام عتبة فوضع يده على فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ناشدتك الله والرحم،ناشدتك الله والرحم،ناشدتك الله والرحم ثلاثاً.
ثم أكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءته حتى انتهى إلى السجدة فسجد ثم نظر إليه فقال: أسمعت يا أبا الوليد، قال: نعم، قال: فهذا ما أخبرك به.
فعاد عتبة إلى قومه، فلما رأوه قالوا: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما كلموه، قال: لقد سمعت قولاً إن له لشأناً ثم نصحهم نصيحة:أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأنه ودعوته فإن أظهره الله فملكه ملكهم وإلا فقد تكفلتالعرب بأمره وشأنه،فقالوا:قد سحرك والله يا أبا الوليد
هذا الرجل قد أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام ووجهٍ وحال وعرض عليه أموراً، لم يلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شيء منها ولم يعرج عليه ولم يتكلم بكلمة وإنما فعل ما أمره الله عز وجل به قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ فتلا عليه كلام الله عز وجل الذي تضمن تعظيم القرآن وقدره وشأنه، وحال هؤلاء المعرضين مع كتاب الله عز وجل ثم ذكر عظمة الله عز وجل وملكه وسلطانه وعظمة خلقه ثم تخويفهم بأن يسلكوا مسلك السالكين قبلهم من الذين هلكوا ممن أعرضوا فأهلكهم الله عز وجل ثم ذكر حال العباد وأعمالهم ووقوفهم بين يدي الله عز وجل ثم ذكر حال أهل الإيمان والإستقامة،ثم ختم الآايات بقوله عز وجل وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثم أتى إلى السجدة فسجد.
فكانت نهاية هذه المفاوضة هو أن ألقى القرآن سلطانه في قلب هذا المتكبر العنيد فهزه هزّاً فعاد إلى قومه بغير الوجه الذي قد ذهب به.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا لم يعرج على شيء مما خوطب به تحقيراً له، وأنه ليس بشيء، لا يحتاج حتى إلى أن ينفي عن نفسه صلى الله عليه وسلم إرادته لهذه الأشياء أو تفكيره فيها، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفكر ولو للحظة أن يقبل عرضاً من هذه العروض، ربما كان سلطانه المالي الذي سوف يرثه من هذا التفاوض ووضعه الاقتصادي الذي سوف يكتسبه من أن يكون أغنى قريشٍ وأكثرها مالاً؛ ربما كان مورثاً له قوةً اقتصادية يستعين بها بعد ذلك على دعوته وعلى بثّ رسالته، ربما كان ملكه الذي سوف يرثه وسلطانه الذي سوف يمنحونه إياه، ربما كان هذا الملك وهذا السلطان يعطيه قوةً على أن يفرض ما يريد على أن يحكمهم بدستوره وقانونه الذي يحبُّ والذي يُؤثر والذي يريد له أن يسود، يستطيع بقوته الذي سيهبه له الملك والسلطان أن ينحّي من طريقه كل صناديد قريش الذين يعارضونه ويؤذون أتباعه ويعذبونه، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد على أن تلى ما أمره الله عز وجل به أن يتلو، والعجيب أن قريشاً لم تلبس إلا قليلاً حتى عاودت الكرة مرة أُخرى هي هي بذات الكلمات وبذات العرض، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلموه، فآتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عَجِلاً، وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً عليهم يخاف عليهم ويعزُّ عليه عنتهم وشقائهم بشركهم وإعراضهم، فلما أن أرسلوا إليه، أسرع إليهم، يظنُّ صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لهم في أمره شيئاً،وأنهم راجعوا أنفسهم بشأن دعوته ورسالته، فآتاهم؛ فعرضوا عليه نفس العرض تماماً كما هو، نفس الأشياء التي ذكرها عتبة عادوا ذكرها مرةً أُخرى وهذا عجيب، هم يكررون العرض مرة أُخرى، هم يحاولون مرةً ثانية أن يصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حلٍّ تفاوضي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما مما تقولون – من هذه الأشياء التي تذكرون – فوالله ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم وإنما أرسلني الله عز وجل إليكم وأنزل عليّ كتابً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلّغت رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم وخيركم في الدنيا الآخرة وإن تردّوا عليّ ما أرسلت إليكم فإني أصبر لأمر الله عز وجل حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قم لم يجدي هذا عنهم شيئاً، فأتاه العاص بن وائل وأمية بن خلف والأسود بن عبدالمطلب، والوليد بن المغيرة، سادات قريشٍ وكبراؤها وأشرافها فقالوا يا محمد :هلم فلتعبد ما نعبد، ولنعبد نحن ما تعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، يعني نجعل جمع من الآلهة نعبده جميعاً – طب ليه؟ – فإن كان ما جئت به أنت هو الحقّ كان لنا منه حظّاً ونصيب – لو كان الدين بتاعك هو اللي مظبوط فيبقى احنا عبدنا معاك –
وإن كان ما نعبده نحن هو الإله وهو الحقّ كنت قد أخذت منه بحظٍّ ونصيب فأنزل الله عز وجل قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ عرضوا حلّاً توافقياً ؛يتفق عليه الجميع، فأنزل الله عز وجل فصل القول ف هذه المسألة، لا يمكن أن يكون هناك نقطة التقاء ما بين توحيد الله عز وجل وما بين الكفر والشرك به، إما أن يوحد العبد ربه عز وجل يعبده وحده لا شريك له، وإما أن يتخذ له من دون الله أنداداً لا يمكن أن يجتمع توحيد الله عز وجل والكفر والشرك به في محلةٍ واحدة وفي قلب العبد أبداً فأتوا إلى حلٍّ آخر، قالوا: يا محمد هلم فلتعبد إلهنا سنة، ولنعبد إلهك سنة، لو لا ينفع الاثنين مع بعض، إذن نخلي هذا سنة والسنة القادمة نحن، وبعدها أنت وهكذا،، تداول السلطان الديني، ولكن بدل السلطان السياسي يبقى السلطان الديني، يعني ده دورة برلمانية وده دورة برلمانية، ديه اسمها دورة إلهية أو دورة دينية وبعدين دورة دينية تانية.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان على طريق وعلى منهاج الذي أمره الله عز وجل به، لم يلتفت إلى أي عرضٍ من هذه العروض وبقي على ما أمره الله عز وجل به حتى فتح الله عز وجل عليه ونصره وأظهر دينه وبقي ناصعاً ساطعاً بيّناً جليّاً حتى وصل إلينا في محلتنا هذه وفي مكاننا هذا فجلسنا هكذا جميعاً على هذه الأرض امتثالاً لأمر الله عز وجل نستمع إلى شخصٍ يتكلم ليس بأفضلنا فضلاً ولا بأعلاناً شرفاً وإنما كان جلوسنا على الأرض واستماعنا لهذه الكلمات تعظيماً لأمر الله، تعظيماً لما يتلى من كتاب الله عز وجل رغبةً في القرب من الله عز وجل، وإنما كان هذا ببركة هذا السبيل وبركة هذا الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله ربّ العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين
إنما كان هذا السبيل وهذه الكلمة البسيطة الفطرية لا إله إلا الله، إنما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبلّغ الناس هذه الكلمة وفقط :أنه ليس هناك إلهاً يعبد ولا يعظّم ولا يقدّس ربنا – تبارك وتعالى – وحده، أنّ الله سبحانه وتعالى هو ربُّ هذا الكون وإلهه وأن كل من عدا الله عز وجل هم عبيدٌ له – تبارك وتعالى – ، إنما السيادة والعلو والعزة والعظمة له – تبارك وتعالى – وحده وأنه سبحانه وتعالى لم يأذن لعبدٍ من عبيده أن يعلو أو يستعلي أو يستعبد عباد الله عز وجل وأنه لا شرف ولا كرم ولا فضلا ولا نسب بين الله وبين خلقه إلا نسب التقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ كانت هذه الكلمات التي تبدو بسيطةً هي التي تؤرق قريشاً، هي التي سعت قريش بكل سبيل إلى أن تطمس نورها حتى لو تخلت في سبيل ذلك بكل ما تملك من أموالٍ ومن ملك ومن سلطان، هي كل ما تريده هي أن تخبو هذه الكلمات وأن تطمس هذا النور الإلهي، رغم أنه كما قلنا لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لأصحابه ولا لدعوته أي خطرٍ اقتصادي أو سياسي أو اجتماعيّ في هذا المجتمع وإنما كان الخطر كل الخطر في هذه الكلمات، كان الخطر كل الخطر في هذه الكلمة البسيطة ” لا إله إلا الله ” لأنهم علموا وأدركوا أن هذه الكلمة سوف لا تجعل في الأرض سلطاناً إلا لله عز وجل سوف ترد كل الناس عبيداً سواسيا، لا فضل لأحدٍ على أحد إلا بالتقوى، هؤلاء المستعبدون المستضعفون، بلال وياسر وسمية وعمّار والزنيرة، هؤلاء كانوا قبل أن تلج قلوبهم هذه الكلمات كانوا عبيداً لساداة مكة، فلما أرسل الله عز وجل رسوله بالهدى ودين الحق صاروا أحراراً لأنهم علموا وأيقنوا أنهم ليسوا إلا عبيداً لله عز وجل وحده وأنه لا يحقُّ لبشرٍ كائناً من كان، أن يستعبدهم أو أن يظلمهم أو يغبطهم حقوقهم، لقد تحوّلوا أحراراً بعد أن كانوا عبيداً بهذه الكلمة التي ألقاها إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أن حالهم وأن ظاهرهم لم يتغير شيئاً، هم لازالت أيديهم وأرجلهم في قيود العبودية التي استعبدتهم بها قريش لكن قلوبهم كانت قد تحررت، هذه الحرية هي التي سوف تسود يوماً ما ولذلك بعد ستة عشر سنة من هذه المفاوضات عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكةَ فاتحاً منتصراً وبلغت دعوته التي دعا مكانها الذي أراد، لقد دخلت هذه الدعوة في قلوب هؤلاء الناس لم تدخل فقط في ديارهم، وإنما دخلت رغماً عن هؤلاء، دخلت في قلوبهم بعدما حاربوها وبعدما أعرضوا عنها زماناً طويلاً وحاربوها سنين متطاولة.
أنزل الله عز وجل آيات من كتابه في هذه الحقبة وفي هذه الفترة، فقال – تبارك وتعالى – وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الله عز وجل يخاطب هؤلاء المطففين ويحذرهم من فعالهم وينهاهم أن يظلموا عباد الله عز وجل ويذكرهم بيوم القيامة، يوم يقفون جميعاً بين يدي الله عز وجل لذلك حينما وعى بلال هذه الكلمات كان وهو يعذّب في رمضاء مكّة لا يردد إلا هذه الكلمة ” أحدٌ أحد هذه الكلمة التي اكتسب بها حريته، التي استعاد بها انسانيته، التي أصبح فيها هو وهؤلاء الساداة في محلة واحدة، وفي منزلةٍ متسامية متساوية، إن الفرق بين بلال الذي يقول أحد أحد، وبين بلال الذي كان بالأمس على الشرك والكفر وهذه الجاهلية لم يكن فقط إلا في هذه الكلمة، هو حاله لم يتغير بل ربما صار أسوأ حالاً بعدما دخل في الإسلام، إنه كان قبل إسلامه لم يكن معذباً ولم يكن توضع عليه الصخرة في صبح اليوم ربما كان أسوأ حالاً من ذي قبل، ولكن تغيّر حاله واستشعر حريّته من خلال هذه الكلمات، كما قالت بنو اسرائيل لموسى أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا الحال لم يتغير، لكنه قال عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ إذاً الذي صبغ المجتمع هذه الصبغة، الذي غيّر المجتمع هذا التغيير إنما كان فقط هو هذه الكلمة ” لا إله إلا الله ” تعريف الناس بربهم عز وجل تعريف الناس بعظمة الله عز وجل، رد كل بغي وكل ظلم وكل عدوان على أصحابه، تعريف الناس بحقوقهم وأنهم سواسيةٌ عند الله عز وجل، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أحمر ولا أسود إلا بالتوى، لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبقى هذه الدعوة، أن تبقى هذه الكلمات أن تبقى هذه الحقيقة ناصعة بيّنة لا يغبش عليها بأي مطلب دنيوي أو بأي مطمح دنيوي، أو بأي سبيلٍ آخر يرى فيه بعض الناس ربما أنه سبيل أقرب أو أقصر إى نصرة الإسلام أو إلى إقامة الدين، لكنه ليس كذلك، لن يكون النصر أو إقامة الدين، أو ردّ الناس إلى دين الله عز وجل إلا إذا تمحور حول هذه الحقيقة، حول هذه الصبغة التي صبغ الله عز وجل هذا المجتمع بها.
إن أيّ انتصار مرحليّ يحققه فردٌ أو كيانٌ أومجموعة أو جماعة أو حزب، إذا لم يكن هذا النصر،نصراً حقيقياً، نصر لمبدأ،نصر لمعتقد نصر لفكرة، فإنه في الحقيقة هو عملية ضلال وتضليل سوف تؤول بأصحابها في النهاية إلى الهاوية.
إن النصر الحقيقي هو أن يقوم دين الله عز وجل كما أراده الله عز وجل، أن يفيء الناس إلى ربهم، أن يعظّموا ربهم، أن يعرفوا حقوقهم، أن يسعوا لإقامة دينهم لا لشيء إلا لأنهم يسعون لإرضاء الله عز وجل طلباً لرضاه،طلباً لجنّته، حينئذٍ إذا صدقوا في هذا حينئذٍ مكّن الله عز وجل لهم، أما أيُّ سبيلٍ أو أي طريقٍ آخر يسلكه الناس خلاف طريق الله الذي أراده لرسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لن يصل بهم إلى شيء.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
اللهم ارحم المستضعفين، اللهم ارحم المستضعفين.
اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين
اللهم ارحم الثكالى، اللهم ارحم اليتامى
اللهم ارحم الثكالى، اللهم ارحم اليتامى
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، يحكم في بكتابك، يؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم