إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد:
كان حديثنا في الجمعة الماضية عن الشجرة ذكرنا شجرة الشيطان، شجرة المعصية، شجرة الغواية، شجرة تنكب طريق الله تبارك وتعالى والإخلاد إلى هذه الحياة الدنيا، ونسيان الآخرة ورضوان الله.
وكيف يكون التعلّق بهذه الشجرة والأكل منها إلى شجرة أخرى ملعونة في كتاب الله هي شجرة الزقوم، فهذه الشجرة طريقٌ إلى تلكم الشجرة الخبيثة، هذه شجرة الشيطان والآخرى وصفها الله تبارك وتعالى فقال: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فلما كانت هذه طاعة للشيطان كانت ثمار هذه كأنها الشياطين متمثلة متجسدة، نسأل الله السلامة والعافية.
وفي مقابل هذه الشجرة شجرة أخرى وصفها الله تبارك وتعالى فقال أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ثم قارنها بالأخرى قال وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ هذه الشجرة الطيبة التي تقابل تلكم الشجرة الخبيثة إنما تقود هي الأخرى لشجرة طيبة عظيمة، قال الله عز وجل عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى شجرة السدر العظيمة التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية، وذكر أنها سدرة المنتهى، ينتهي عندها عروج الملائكة فلا يستطيع ملك مقرّب أن يتجاوز تلك السدرة، وينتهي إليها الأوامر الإلهية والأحكام الإلهية المتنزلة من عند الرب تبارك وتعالى حيث تتلقاها هنالك الملائكة، وينتهي إليها آمال الإنسان وطموحاته ورغائبه حيث عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى هذه الجنة التي هي غاية كل عبدٍ مؤمن في هذه الحياة ليس فوقها وليس وراءها غاية هي أعظم من هذه الغاية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ يصف الله عز وجل هذه الشجرة فيقول إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى من جلال الله عز وجل ونوره وبهائه وعظمته، ويصف رسول الله صلى الله عليه وسلم شجرة من شجر الجنة التي تقابل تلك الشجرة الخبيثة التي هي شجر الزقوم، وسمّاها صلى الله عليه وسلم في بعض حديثه بطوبى، هذه الشجرة الطيبة التي ذكرها الله عز وجل في صورة إبراهيم، هذا الطيب لا يثمر إلا طيباً، فطوبى، هذه تعني الحياة والمعيشة الطيبة، والحياة الرغيدة، ولذلك لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عند مسلم، ذكر الغربة والغرباء، قال في نهاية كلامه ” فطوبى للغرباء ” هذا الوعد العظيم لهم بالحياة الطيبة لهم في الدنيا والآخرة التي تنتهي تحت ظلال هذه الشجرة الوارفة وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا فذكر صلى الله عليه وسلم: أن في الجنة شجرة يسير الراكب – وليس الذي يسير على قدميه – يسير الراكب في ظلها مائة عامٍ ما يقطعها، ومصداق هذا في كتاب الله عز وجل وَظِلٍّ مَمْدُودٍ.
فالذي يعيش هذه الحياة الطيبة في الدنيا، الذي تتناول هذه الثمار الطيبة، يتناول في الآخرة ثمار هذه الشجرة الطيبة ويستظلّ بهذا الظل الوارف، وقبل أن نتكلم عن هذه الشجرة الطيبة الذي ذكرها الله عز وجل ووصفها نشير إلى شجرة أخرى هي شجرة الرحمة، قال تعالى وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ في هذه الآيات يذكر الله عز وجل نبيّه يونس عليه السلام أنه قد ضجر من قومه ومن إبائهم لطاعة الله تبارك وتعالى، من رفضهم أن يزعنوا لأمره، وأن يدينوا بدينه عز وجل، فغضب منهم وأنذرهم بحلول العذاب بعد ثلاث، لكنّه تعجّل بالخروج من قريته لأجل غلبة غضبه عليه، فخرج منها قبل أن يأذن الله عز وجل له بأن يخرج؛ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ خرج مغاضباً لقومه فالتقمه الحوت، فظنّ أن رحمة الله عز وجل لابد أت تتسع أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نضيّق عليه فوق هذا، فحينئذٍ توجّه إلى الله عز وجل تائباً مستغفراً فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ هذه سنة الله عز وجل في عباده المؤمنين، وَكَذَلِكَ على وفق هذه السنة العامة وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ فلما خرج من قريته وأحسوا بقرب وقوع العذاب تضرعوا إلى الله عز وجل وتابوا وأنابوا فكشف الله عز وجل عنهم، قال تعالى فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ فمراد الله عز وجل من عباده ليس أن يعذبهم وإنما أن يردّهم إليه فيتوبوا وينيبوا، مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا.
إِذْ أَبَقَ والإباق: هو فرار العبد من سيّده، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ يبقى ديه سفينة مليئة بالبشر، فاضطربت السفينة فأرادوا أن يلقوا منها أحداً، فَسَاهَمَ عملوا قرعة، فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ من الذين يلقون، فألقى بنفسه، وكان الحوت على ميعاد من الله عز وجل منتظراً إياه، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ كان حينئذٍ ملوماً لأنه خرج قبل أن يأذن الله عز وجل له، فيقول تعالى فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قبل ذلك وأثناء ذلك لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ كان قبل من المحسنين ولذلك روي في الحديث، صنائع المعروف تقي مصارع السوء وروي في الحديث أيضاً تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة كان قبل له رصيدٌ من الخير ومن البر رحمه الله عز وجل به في هذه اللحظات الحرجة، وكان أيضاً في بطن الحوت من المسبحين حينما علم أنه قد خالف فكان يدعو بهذه الكلمات لا إله إلا أنت سبحانك أنه يقرّ لربه عز وجل بالوحدانية وينزّهه عن كل نقص، وينسب إلى نفسه ويقرّ ويعترف بعجزه، وبتقصيره وبمخالفته راغباً في التوبة إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يبقى إذاً هذا التسبيح وتلكم التوبة هي التي تقطع البلاء عن العبد حينما ينزل به، لو تمادى به الحال، لو لم يتب ولو لم يتب لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ في بطن هذا الحوت إلى يوم القيامة، يبقى إذاً الذي يقطع هذا البلاء، الذي يدرأ تلك الفتن، إنما هو التوبة والأوبة والعودة إلى الله عز وجل والاعتراف بالذنب والتقصير.
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ مكان ليس فيه شيء، لا شجر ولا ظل، ولا شيء من ذلك فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ هو في أشدّ حالات الضعف والوهن لا يستطيع أن يقوم بنفسه وليس معه أحد يرعاه، وليس في هذا المكان شيءٌ مما يحيا عليه وينتفع به، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ إذاً الله عز وجل لم يخرجه إلى مكان فيه شجر ولا فيه بشر ولا فيه ثمر؛ لكي تكتمل نعمة الله عز وجل عليه ولم يخرج فيجد الشجرة، هو خرج إلى مكان ليس فيه شيء، ثم أنبت الله عز وجل عليه هذه الشجرة له خصيصاً لكي يعود إلى حاله الأول بواسطة هذه الشجرة وكان الله عز وجل قادراً على أن يجعل هذه الشجرة في هذا المحل قبل أن يخرج إليه، أو أن يأمر الحوت بأن يضعه في مكانٍ في الأساس فيه شجر، وإنما يظهر الله عز وجل رحمته وكرمه ومنّته، أنه سوف يخلق في هذا المكان شجرة خصيصاً لأجل هذا العبد التائب، واختار الله عز وجل له هذا لكبر ورقه ونعومة ورقه ولطيب ثمره ولأنه لا يحتاج إلى إنضاج، وهذا الشجر من الشجر الذي يتثنى، فهو سوف يتحرك، هو الذي سوف يتحرك لكي يكسوه بورقه، لأنه في حال هو نفسه لا يستطيع أن يتحرك، ولذلك قال الله عز وجل في صورة مريم، ونحن مع الشجر مرة أخرى وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا لا يمكن لإنسان بل لجمعٍ من الناس مهما بلغت قوتهم أن يحركوا جذع نخلة، التمر أو الرطب اللي على النخلة بيتسلقها أو يقذفها بشيء لكي يسقط عليه هذا الرطب.
ما بالك بامرأة ضعيفة في أضعف حالاتها وهي حال المخاض، لكن لابد للإنسان أن يغعل شيئاً، لابد للإنسان أن يأخذ بسبب، ثم يفعل الله عز وجل بمنّه وكرمه ما يشاء، لابد أن تفعل شيئاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ هو لن يتحرك ولا يمكن أن يهتز أصلاً، هي سوف تمسّه مسّاً، ليس أكثر، وحينئذٍ سوف تساقط هذه النخلة بأمر الله عز وجل عليها هذه الرطب، فالله سبحانه وتعالى حينئذٍ يأمرها أن تساقط عليها هذه الرطب، لتأكل وتشرب وتقرّ عينا
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ وحينئذٍ يأخذ اليمّ دوره فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ لكي يكون إيمانهم في ميزان حسناته عليه السلام في يوم القيامة، هذه الشجرة؛ هي شجرة الرحمة التي رحم الله عز وجل بها هذا العبد التائب، وهذا النبي الكريم فخلقها له خلقاً وأوجدها له إيجاداً.
ثم نعود إلى شجرتنا الطيبة، هذه الشجرة الطيبة لها وصفٌ في ذاتها ولها وصفٌ في مرأى العين للناظر إليها، ما وصفها في ذاتها فهي شجرة باثقة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ وهذا الوصف له حديث آخر، أما الذي نتكلم عنه في يومنا هذا فهو وصفها بمرأى العين، فهي في نفسها قويّة عظيمة باسقة، لكنّها بمرأى العين ليّنة ضعيفة؛ يظهر عليها أثر السكينة والتواضع والاخبات حتى لا تبدو ضعيفة لكنّك إذا شاممتها ولامستها وجدتها كما ذكر الله تبارك وتعالى أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المرأى الخارجي الظاهري لهذه النخلة الباسقة فيقول فيما رواه البخاري عن كعب بن مالك رضي الله عنه: مثل المؤمن كمثل الخامة – الخامة هي النبتة الغضّة اللينة التي تبدو ضعيفة، مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيؤها الريح مرة، وتعدلها مرّة، تأتي الريح فتنكفئ هذه النبتة الضعيفة، ثم تزول الريح فتعتدل، ومثل المنافق كالأرزة – شجرة الأرزة كبيرة – لاتزال واقفة مفيش حاجة بتهزّها حتى يكون انجعافها مرة واحدة.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يصف المؤمن بوصف نبتة، ويصف المنافق بوصف شجرة، النبتة حالها ووصفها أنها رقيقة وضعيفة، تأتي الريح فتكفؤها ثم تزول،، وأما هذا المنافق فكالشجرة الكبيرة لكنها ليست الشجرة الطيبة، ليست النخلة التي تؤتي أكلها كل حين، هذه شجرة عالية نعم، لكن لا ثمر لها، لا نفع فيها، وإنما ينتفع بها حينما تستحصد بما حوت من خشب، فكذلك هذا المنافق لا نفع فيه ولا خير.
وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه في ذات الوصف؛ مثل المؤمن مثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كشجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد، وفي المسند أيضاً عن جابر رضي الله عنه: مثل المؤمن مثل السنبلة مرة تستقيم ومرة تميل، ومثل الكافر مثل الأرزة مستقيمة لا يشعر بها حتى تخرّ، النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث يصف وصف هذه الشجرة حينما يراها الناس، فهي رقيقة ليّنة يعتريها البلاء بين الحين والحين، وكما ذكرنا مراراً إن هذا البلاء أو الابتلاء إنما هو رحمة من الله عز وجل بالعبد المؤمن لكي يرده إلى الله، ولكي يكفّر من سيئاته ويرفع درجاته.
” فتأتي الريح فتميلها ” وهذا حال الابتلاء، ثم تداركها رحمة الله عز وجل فتستقيم وتعتدل، فالله عز وجل رحيم كريم لا يديم على عباده البلاء وإنما يبلوهم بشيء منهم لحكمة بالغة منه سبحانه وتعالى وأما أهل النفاق فيبقون على هذا الوصف الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تأتيهم الريح الشديدة والأعاصير الشديدة فتجتزهم من أصولهم، لأنهم كما ذكر الله تبارك وتعالى في وصفهم مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ليس لها عمق في باطن الأرض وإنما هي كالبناء الذي يبنى على سطح الأرض وعلى وجهها ليس له وزن، فهذا فهذا تأتي الأعاصير والرياح فتذهبه، ولذلك قال الله تبارك وتعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ هذا وصفه الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ فالزرعة الأولى الطيّبة اللينة الرقيقة وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بدعوته تكاثرت حوله تلك السنابل الرقيقة فتجمّعت فصارت بتجمعها قويّة لا تقهر عصيّة على أن تجتث، وإذاً فهذه النبتة إنما تكتسب قوّتها من وحدتها واجتماعها، فقوّة المؤمنين، تلك السنابل الرقيقة إنما تكتسب من اجتماعهم وألفتهم ووحدتهم.
ولذلك أمر الله عز وجل أمراً جازماً بهذا الاجتماع وبهذه الوحدة لأنها العاصمة لهذه الجماعة بإذن ربها من أن تجتثّ أو أن تستحصد وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
قبل أن أختم هذه الكلمة أودّ أن اعتذر عن أن أطلت في المرة الماضية وربما أطلت وأطيل أيضاً في هذه المرة لأنه ربما يحتاج الإنسان إلى أن يبثّ معاني معينة، وأن تتكامل خيوط هذه المعاني فيحتاج أحياناً إلى أن يرتكب أخفّ الضررين؛ يطيل قليلاً في الوقت لأجل أن يتمّ هذا المعنى لكي يبدو كاملاً، متّسقاً، متناسقاً، فأرجو المعذرة واسأل الله عز وجل المغفرة فهو أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
الحمد لله؛ عائدٌ إلى كتاب الله عز وجل، إلى هذه الكلمات من كلام الرب تبارك وتعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ هذا التكريم وهذه الكرامة هي منحةٌ ومنّةٌ ورحمة إلهية وهبها الله عز وجل خالق هذا الإنسان له، فالله عز وجل هو الذي وهب الإنسان التكريم والكرامة، ليست الكرامة منّة من عبدٍ على عبد ولا منحة من مخلوقٍ لمخلوق، وإنما أعطاها الله عز وجل للإنسان من حيث كونه إنساناً،وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، هذه الكرامة هي التي أرادها الله عز وجل للإنسان أن يحيا كريماً أن يحيا حياةً تليق بالإنسان الذي فضّله الله عز وجل، بل أراد الله عز وجل له ما فوق ذلك، أراد الله عز وجل له بعد أن منحه هذه الكرامة أن يمنحه العلوّ والعزة، منحه الكرامة بفطرته التي فطرت على الحق، وأراد سبحانه وتعالى أن يمنحه العزّة والعلو بإيمانه بالله عز وجل واتّصاله به، الله عز وجل هو العزيز، فكل من اتّصل بالله فلابد أن ينال من عزّته تبارك وتعالى، ولذلك يتأبى على أن يقهر أو أن يذل، ولذلك قال تعالى وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا سبيلها إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ هذه الكلمات الطيّبة وهذه الأعمال الصالحة التي ترتفع إلى السماء ترفع صاحبها أيضاً إلى عنان السماء، قال تعالى في سورة آل عمران وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هو يخاطبهم سبحانه وتعالى في لحظات الضعف والهزيمة في هذه اللحظة بعدا أصابهم ما أصابهم يقول لهم سبحانه وتعالى مواسياً وهم المتسببون في الهزيمة وهم الذين تنكبوا أمر الله، وهم الذين خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم بمخالفتهم قد عوقبوا وانتهى الأمر، هم قد فعلوا فعلاً استوجب عقوبة فعوقبوا، فالله عز وجل لا يعاتبهم ولا يؤنبهم ولا يوبّخهم وإنما يلاطفهم سبحانه وتعالى ويقول لهم لا عليكم لا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا لم يحدث شيء فأنتم الأعلون، وإن كنتم في ظاهر الحال وفي واقع المعركة لستم كذلك، لكنكم الأعلون في الحقيقة لأنكم المتّصلون بالعليّ تبارك وتعالى وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ولذلك لما وقف أبوسفيان رضي الله عنه وكان إذ ذاك رئيس المشركين وزعيمهم وقائدهم فنادى: أفي القوم محمد، أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم عمر بن الخطاب، فلا يجيب مجيب، النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يجيبوه،، ثم أجابه عمر فقال أبو سفيان: اعلو هُبل، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا تجيبوه، قالوا: بماذا نجيب يا رسول الله، قال: قولوا: الله أعلى وأجلّ، قال: لنا العزى – العلو ثم العزة – لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله: ألا تجيبوه، قالوا: بماذا نجيب يا رسول الله، قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم، فالكرامة منّة ثم منحة من الله والإيمان يزيد الإنسان فضل هذه الكرامة؛ عزّة وعلوّاً ورفعةً تليق بالمؤمنين.
أبو خالد الذي هو الزعيم الخالد وقف أمام مطعم الجمهورية يخاطب جموعاً غفيرة من البشر أتت لتستمع لكلماته قبل سبعة وخمسين سنة وهو يقول: أنا، أنا اللي علّمتكو الكرامة، الكلام ده في أربعة وخمسين قبل ما يحيا حياة الرئاسة قبل ما يبقى حاجة، يقول: أنا اللي علمتكو الكرامة، لقد سمعنا منه هذه الكلمة ولم نردّها عليه، لم نقل له إن الله عز وجل هو الذي منحنا هذه الكرامة، إن الله عز وجل هو الذي أعطانا هذه المنّة، ليست منّةً منك ولم نتعلّمها قطّ منك، بل نحن كذلك قبل أن توجد وقبل أن تولد، حينما قبلنا نحن هذه الكلمة، حينما لم نردُّ عليه في هذه اللحظة هذه الكلمة ترتّب على ذلك ما ترتّب ولن تعود لنا الكرامة حتى نقف فنردّ عليه هذه الكلمة ونقول قال الله تبارك وتعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ في هذه الآونة عاش رجلٌ في ظلال كلام الله تبارك وتعالى وقرأ هذه الآيات في كتاب الله عز وجل، فأراد أن يصحح هذا المفهوم، أراد أن يصحح مفهوم الكرامة ومفهوم الحرية، فكان جزاءه هو السجن الطويل والإيذاء الشديد الذي انتهى بعيدان المشانق، في سبيل أي قضية ذهب هذا الرجل؟ في سبيل الردّ على هذه الكلمة، وفي سبيل تصحيح هذا المفهوم، هو يقول: لن نتعلم الكرامة منك بل أخذناها حقّاً من الله، نريد أن نحيا كما أراد الله تبارك وتعالى، ولذلك كان يقول: المؤمن هو عبدٌ لله وسيّد مع كل من حوله،، هو عبدٌ لله عز وجل وحده، هو يقول: إنما أريد منه أن يقدّم كلمة اعتذار، يكتب في ورقة صغيرة كلمة فيها اعتذار لهذا الذي علّمنا الكرامة، وحينئذٍ يخرج ويعود إلى سالف حاله، وتفتح له الأبواب كما كانت مفتوحة من قبل، فهو يقول حينئذٍ: أنا لن اعتذر عن العمل مع الملك، يقول: إن إصبع، إصبع السبابة – هذا – الذي يشهد لله عز وجل بالوحدانية في كل صلاة – في التشهد احنا بنفعل هكذا، نقول نشهد أن لا إله إلا الله ونفعل هكذا – يقول: هذا الإصبع يأبى أن يكتب – ما ينفعش يمسك القلم ويكتب كلمة اعتذار للباطل، يقول: إن أصحاب الأقلام؛ – هذه الأقلام – يستطيعون أن يفعلوا شيئاً كيبراً بشرط واحد هو أن يموتوا لتحيا كلماتهم، إن كلماتنا تبقى عرائس من شمع حتى إذا ضحينا في سبيلها وغديناها بالدماء عادت حيّة، وعائت بين الأحياء، في سبيل هذا المعنى، في سبيل ردّ هذه الكلمة قدّم كثيرٌ من الناس أرواحهم لتصحيح هذه المفاهيم.
ولذلك كان يقول في سجنه في أبيات له يخاطب إخوانه الذين معه في السجن، الذين فتّ في عضدهم هذا الوضع الأليم يقول: أخي أنت حرٌ وراء السدود،، الحرية: شيءٌ يحسه الإنسان ويعيشه في قلبه، شيءٌ منحه الله عز وجل، لا يستطيع إنسان أن يسلبه.
أخي أنت حرٌ وراء السدود – هذه السجون – أخي أنت حرٌ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما فماذا يضيرك كيد العبيد
ولذلك سيبقى هؤلاء دائماً كما كانوا يفهمون وكما كانوا يعيشون سيبقى هؤلاء دائماً ملمين بمعاني الحرية والكرامة، وسنبقى نحن نحتاج أن نصحح هذه الكلمة، وأن نرد على هذا القائل هذه الكلمة حتى تعود لنا كرامتنا التي أعطاها الله عز وجل لنا.
أختم بأبيات تمثّلها رجل تجوب في عقل إنسان وهو يتحرك نحو تلك الأعواد لكي يقضي نحبه في سبيل تلك الكرامة ذكر أبيات كثيرة وقصيدة طويلة معظمها يدور حول حديث النفس في هذه اللحظات، هو يراجع نفسه، أنا كان ممكن أتجنب ده، أنا كان ممكن أجنب نفسي هذا المصير ثم في نهاية هذا يخاطب هذا الشاعر أباه يرسل له رسالة تصله بعد أن يموت، فيقول:
أبتاه إن طلع الصباح على الدنا وأضاء نور الشمس كل مكان
ثم ذكر أبياتاً في ذكر الصباح والفجر ومجيء بائع اللبن لكي يطرق بابهم.
وأتى يدقّ كما تعوّد بابنا فسيدق – في هذا الوقت – باب السجن جلادان
وأكون بعد هنيهة متعلقاً مشدوداً إلى العيدان
يخاطب أباه يقول: ليكن عذاؤك أن هذا الحبل ما صنعته في هذه الربوع بنان، الحبل ده مستورد مش من هنا، حبل الإعدام ده مش من عندنا احنا جايبينه من بره
نسجوه في بلدٍ يشع حضارةً وتضاء منه مشاعل العرفان،، هذه الحبال إنما تأتينا من البلاد التي نحن مفتونون بها، بلاد الحضارة، هم الذين يقيّدوننا، هم الذين يكبّلوننا لكي يبقوا هم دائماً فيما هم فيه ونبقى نحن دائماً فيما نحن فيه.
أو هكذا زعموا وجيء به إلى بلد الجريح على يد السجين، ثم يقول في نهاية هذه الأبيات:
لكن إذا انتصر الضياء – في يوم من الأيام بعد أن يموت بسنين إذا انتصر الضياء – ومزّقت بيد الجموع شريعة القرصان
فلسوف يذكرني ويكبر همّتي من كان في بلدي حديث هوان.
وإلى لقاءٍ تحت ظلّ عدالة قدسية الأحكام والميزان
سوف يأتي يوم في هذه الدنيا وتتغير الأحوال ويتذكّر هؤلاء الناس هؤلاء الذين ضحّوا وهؤلاء الذين ماتوا في سبيل هذا وفوق كل هذا وأعظم من كل هذا يومٌ عظيمٌ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ يقفون يبن يدي الله عز وجل يسائل كلّاً عن عمله، يعطي كلّاً ما يستحقّ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
وإلى لقاءٍ تحت ظلّ عدالةٍ قدسية الأحكام والميزان
اللهم اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، اللهم آتنا في هذه الدنيا حسنة، وآتنا في الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم آتنا في هذه الدنيا حسنة، وآتنا في الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم