إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد،.
لقد استوقفني فيما ذكرناه في الخطبة الماضية أمر خالد الحداد وأمر مالك بن الريب، لقد ذكرنا شيئا عن أبي الهيثم الحداد، وهو رجل إذا أردنا أن نشبهه فهو بأدق وصف وكأشبه ما يكون زعيم من زعماء عصابات ” الموت؟؟ ” ، هذا هو الوصف الذي ينطبق على هذا الشخص هو هو كما ذكرنا في خطبتنا الماضية هو الذي يقف موقف التثبيت والتأييد لعالم وإمام يرى أن حقّاً عليه بواجب دينه وإنتمائه إلى شرعته وملّته أن يناصره وأن يثبته وأن يؤيده، حتى إن الإمام أحمد كان لسانه لا يفتر عن الدعاء له بالرحمة وهذا تصوير عجيب علاقة بين عالم وإمام ورجل ممن يعيثون في الأرض فساداً كيف ينظر هذا العالم والإمام لهذا الرجل الذي نراه على هذه الحال وعلى هذه الصفة وكيف بقي الإمام أحمد زماناً طويلاً يستشعر العرفان بالجميل لهذا الرجل على هذه الكلمات الني ألقاها على مسامعه واستقرت في قلبه تثبيتاً له على الحق وعلى الصبر على أمر الله عز وجل.
وذكرنا أيضاً مالك بن الريب بن حوط المازني هذا الرجل الذي كان يروع الآمنين ويقطع الطريق ويسلب الناس أموالهم، فإذا سُئل عن علّة ذلك أسنده وأرجعه وردّه إلى أن أُناساً يفضلون عليه ويكرمونه فهو يريد أن يكافأهم وهو رجل لا مال له، وهذا الرجل كما ذكرنا على هذه الحال وهذه الصفة بمجرد أن يعرض عليه أن يعطى من المال ما يغنيه وأن يتوجه مع أمير الجهاد إلى الجهاد في سبيل الله وما له من مخاوف وما له من عواقب فلا يتلكأ ولا يتلبث لحظة في أن يقبل هذا العرض وأن يسلك هذا السبيل، كيف يحدث هذا التحول لمثل هذا الشخص في هذه اللحظة والبرهة الوجيزة هذا هو ما نريد أن نبحث له عن إجابة، يقول الله عز وجل قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ومع هذه الكلمة ” صبغة الله ” في هذه الكلمة جواب ما نسأل عنه وحقيقة ما نبحث عنه ونسترشد لكي نهتدي به، الله سبحانه وتعالى يسمي دينه وشرعه ومنهاجه وملّته التي ارتضاها لعباده يسميها سبحانه وتعالى صبغةً وينسبها سبحانه وتعالى إلى نفسه فيقول ” صِبْغَةَ اللَّهِ ” وهذه الصبغة لا تستحق هذا الاسم ولا تكون صبغة حتى يتحقق فيها وصفان ويجتمع فيها شرطان،أنت إذا أردت أن تصبغ ثوباً من الثياب لا يعدُّ صباغك له صباغاً إلا إذا كان هذا الصباغ يشمل الثوب ويعمّه كله بحيث لا يترك منه جزءاً على لونه القديم الذي كان عليه قبل أن يصبغ،هذا أولاً.
والشرط الثاني: أن تكون هذه الصبغة ثابتةً مستقرة لا تزول إذا عرضناه لغسل أو كررنا عليه غسل فهي لا تحول ولا تزول إذا عرّضت لهذا الاختبار وهذا الغسل الذي يتوالى عليه مرةً تلو المرة.
فإذاً الله عز وجل اختار لوصف دينه وتأثير هذا الدين في العباد اختار له هذه الصفة صفة الصبغة فأولاً هذه الصبغة لابد أن تلوّن العبد بلونٍ جديد يخالف لونه السابق، وإلا لم يكن ثمَّ صبغٌ ولا غيره.
فإذاً الإنسان قبل أن يمنّ الله عز وجل عليه بهذه النعمة؛ يعرف دينه ويعرف ربه تبارك وتعالى ويدرك معنى العبودية لله تبارك وتعالى يكون على لونٍ وعلى صفةٍ وعلى هيئةٍ وعلى شكلٍ، فإذا ما امتن الله عز وجل عليه بهذه المنّة حال لونه وتغيّر شكله وتحوّلت صفته فاكتسبت لوناً جديداً وصفةً جديدة مغايرةً لما كان عليه قبل ذلك هذه الصبغة وهذا اللون الجديد تصطبغ حياة الإنسان كلها، قلبه وقالبه، أقواله وأفعاله،أخلاقه وسلوكه، حركاته وسكناته، وحينئذٍ تكون هذه الصبغة مستحقة لهذا الوصف.
الأمر الثاني أن تكون كما قلنا ثابتة مستقرة لا تحول ولا تزول، لا يتلون مع الأيام في كل موقف تراه في موقف جديد بل هو على لونٍ واحد وصبغة واحدة هي صبغة الله التي ارتضاها عز وجل لعباده، هذه الصبغة هي الفطرة التي فطر الله عز وجل العباد عليها.
قال صلى الله عليه وسلم ” كل مولودٍ يولد على الفطرة ” وهي الإسلام، يصبغ صبغة في هذا الإسلام فيخرج بلون جديد وهذا خلاف ما يصنعه أهل الملل المنحرفة إذ يصبغون من يولد منهم في ماءٍ يضعونه فيه لكي يكسبونه صفة الإيمان، هم يتصورون أنهم بصبغه وغمسه في ماءٍ يصبغون قلبه بصبغة الإيمان ولكن الله عز وجل يبيّن أن الصبغة الحقيقية هي صبغة الإيمان التي يصطبغ بها القلب لا يصطبغ بها ظاهر العبد، فإذا كان هؤلاء يصبغون في هذا الماء فإن صبغة الله هي التي تصبغ قلب العبد بلون الإيمان الذي لا يحول ولا يزول.
في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار – يؤتى به يوم لقيامة – فيصبغ في النار صبغة – أي يغمس ويخرج – فيقال له – وهو أشد أهل الدنيا نعيماً ولكن من الكافر من أصحاب الجحيم – فيصبغ في النار صبغةً واحدة ثمّ يقال له يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط هل مرّ بك نعيمٌ قط، فيقول: لا والله يارب، ثم يؤتى بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة واحدة ثم يخرج فيقال له يا ابن آدم: هل مرت بك شدة قط، هل رأيت بؤساً قط، فيقول:لا والله يارب ما رأيت شدة قط ولا مر بي بؤسٌ قط، فصبغة واحدة في الجنة تنسي كل شقاء الدنيا، وصبغة واحدة في النار تنسي صاحبها كل نعيم تنعمه في هذه الدنيا، فهذه الصبغة التي اصطبغ بها المؤمن هي التي تكفل له أن يصبغ في الجنة هذه الصبغة.
فإذاً وصف الله عز وجل دينه بهذا الوصف الذي هو الصبغة؛ لم يصفه سبحانه وتعالى بأنه طلاءٌ، وفرق بين الصبغة والطلاء، الصبغة هي التي تتخلل مساموأنسجة الثوب المصبوغ بحيث تصل إلى سويدائه وإلى لبّه، أما الطلاء فهو ما يطلا به ظاهر الشيء فهو يبدو على مظهر من الإيمان لكن مخبره وجوهره وحقيقته خاليةً من هذا الوصف، لا تنتمي إليه بشيء وليست منه في نقيرٍ ولا في قطمير، فالله عز وجل يصف دينه بأنه الصبغة ويصف دينه بهذه الصفة لا يصفه بإنه طلاء بل ما يصل إلى سويداء العبد وقلبه، هذا هو الوصف،الأول لهذه الصبغة؛ صبغة فردية تصبغ قلب العبد وجوارحه، أخلاقه وسلوكه، أقواله، وأعماله.
والأمر الثاني الصبغة الإجتماعية أي أن هذه الصبغة تعم مجتمعاً كاملاً من الناس، تصبغ هذا المجتمع كله بصبغة جديدة غير صبغته التي كان عليها أولاً، لكن هذه الصبغة الإجتماعية تكون على درجات متفاوتة من هذا اللون الجديد فالناس في إيمانهم مراتب ودرجات، لكن هذا الإيمان لا يقتصر في مجتمع المؤمنين على فئة دون فئة، على نخبة أو صفوة هم أهل الإيمان وغيرهم هم ليسوا كذلك، بل المجتمع كله يصطبغ بصبغة الإيمان لكن على درجات متفاوتة من هذا اللون وهذه الصبغة الإلهية.
قال صلى الله عليه وسلم ” المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير فهو مجتمع المؤمنين، لكن فيهم من هو قويٌ في صبغته، فيهم من هو قوي في إيمانه وفيهم من هو ضعيف، وواجب القوي أن يأخذ بيد الضعيف لذلك قال صلى الله عليه وسلم ” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبّك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه ” .
إذاً وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مكجتمع،ككتلة كبيرة أنها بنيان يشد بملاط واحد فيشد بعضه بعضا، قويه يشد ضعيفه، المتين يحمل على كاهله الكل الضعيف الذي لا على أن يقوم بنفسه دائماً، ولا أن يقاوم نزغات الشيطان
إذاً هذه الصور التي رأينا إنما كانت على هذه الصفة بأثر صبغة الإيمان التي اصطبغ بها المجتمع ككل حتى وصلت إلى مالك بن الريب وحتى وصلت إلى أبي الهيثم الحداد.
نمثل على هذه الصفة وعلى هذا المعنى بمثال. هذا المثال هو ماعز بن مالك الأسلمي.
ماعز بن مالك رجلٌ أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وقع في جريمة عظيمة، وقع في جريمة الزنا.
وإذاً فهذا المجتمع الذي هو أمثل ما يكون وأعلى ما يكون وأفضل ما يكون فيه الضعيف الذي تغلبه نفسه في لحظة من لحظاته فيقع في هذا الجرم وهذا الإثم العظيم، هذا موجودٌ في هذا المجتمع الذي يربيه ويوجهه ويعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيهم القوي وفيهم الضعيف، فيه الذي تستولي عليه نزغات الشيطان في لحظة من لحظاته ولكن هذا الشخص الذي استولت عليه هذه النزغة، كيف حاله وكيف تفاعله وتأثره بهذه النزغة الشيطانية، هذا هو أثر الإيمان وأثر التربية التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المجتمع.
هذا ماعز بن مالك ربما لا تجد له ذكراً إلا في هذه الحادثة، فهو رجلٌ من غمار الناس لا يعرف بفضلٍ أو مزيد تقوى أو بسابقةٍ في الإيمان والإسلام، يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله طهرني،هو أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب أن يقيم رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّاً عليه يؤول إلى موته، لكننا نلحظ أن ماعزاً أتى إلى رسول الله لم يقل يا رسول الله ارجمني، هو يقول يا رسول الله طهرني،هو ينظر إلى هذا الحد وإلى هذا الشيء الذي سوف يصيبه ليس على أنه رجماً وإنما على إنه تطهيرٌ ينقيه ويرفع عنه إثم ووزر المعصية فيعود إلى ربه تبارك وتعالى طاهراً صافياً نقيّاً كما فطره الله تبارك وتعالى
فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجع فاستغفر الله وتب إليه، لم يسأله رسول الله ماذا فعلت وماذا الذي يستوجب الحد، بل يقول له ارجع فاستغفر الله وتب إليه، فرجع غير بعيد كما يقول بريدة رضي الله عنه، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيةً فقال يا رسول الله طهرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجع فاستغفر الله وتب إليه، ثم جاءه الثالثة فقال: يارسول الله طهرني، فقال: ارجع فاستغفر الله وتب إليه، ثم أتاه الرابعة:فيقول يارسول الله طهرني، فقال صلى الله عليه وسلم مما أطهرك، قال: من الزنا، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبه جنون، فأخبره أهله أنه صحيحٌ ليست به علّة، أشرب خمراً، فقام رجلٌ فاستنكه فمه أي شمّ رائحته، فقال يا رسول الله إنه لم يشرب خمراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: زنيت، قال: نعم، فأمر به فرجم.
فافترق الناس فيه فرقتان فقالت فرقة لقد هلك، وقالت فرقة ما توبة أفضل من توبة ماعز بن مالك إذ جاء إلى رسول الله فجعل يده في يده وقال ارجمني وطهرني يا رسول الله، فلبثوا على ذلك يومين أو ثلاثة حتى جاء سول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم وقال: استغفروا لماعز بن مالك:فقال صلى الله عليه وسلم لقد تاب توبة ً لو وزّعت على أمة من الناس لوسعتهم.
فهذا الرجل الذي وقع في هذا الأمر العظيم لم تطق نفسه أن يصبر على هذا الجرم الذي ارتكب، كلما تذكر هذا الفعل الذي فعل، لم تطق نفسه أن يبقى من دون تطهير فهو يأتي بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلب منه أن يقيم عليه كتاب الله، رسول الله صلى الله عليه وسلم يرده وهو يأبى إلا أن يعود إليه.
في الموطأ عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه في هذه القصّة أن ماعزاً قبل أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال إن الآخر – أي الأبعد – قد زنى فقال له أبو بكر رضي الله عنه هل أخبرت بهذا أحداً غيري قال: لا، قال: فتب إلى الله واستتر بستر الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده، فذهب، فيقول سعيد فلم تقرره نفسه، نفسه لم تجعله يستقر، لا يستطيع أن يسكن أو أن يطمئن وهو يتذكر ويمثل أمامه هذا الفعل الذي فعل وهذا الجرم الذي ارتكب.
فجاء إلى عمر رضي الله عنه فذكر له مثلما ذكر لأبي بكر رضي الله عنه فأجابه عمر بمثل ما أجابه به أبوبكر رضي الله عنه، فلم تقرره نفسه حتى أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان منه ما كان مما أخبرنا به آنفا.
وفي مسند الإمام أحمد عن نعيم بن نذال، أنهم لما رجموا ماعزاً واشتدّ عليه هذا الرجم جزع فخرج يشتد، يعني بدأ يهرب فلقيه عبدالله بن ليث رضي الله عنه بلحي جمل أو وظيفة حمار – عظمة كبيرة – فرماه بها في رأسه فخر ميّتاً، ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما حدث،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلّا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه،ثم التفت إلى هزان الذي أشار عليه أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعترف فقال له: ياهزان لو سترته بثوبك لكان خيراً لك،.
فالشاهد من هذه القصة التي نذكر أثر هذه الصبغة الإيمانية في هذا المجتمع القوي فيه والضعيف، قوي الإيمان وضعيف الإيمان، أن المجتمع كله يتحرك حركة واحدة كله يصطبغ بصبغ الإيمان على درجات متفاوتة يشد بعضه بعضاً ليس الإيمان كما قلنا خاصاً بفئةٍ معينة أو فصيل أو فريق من المجتمع سمّوا بالإسلاميين أو بغير ذلك، بل وصف الإيمان وصف عميقٌ في مجتمع المؤمنين يشمل كل أفراد هذا المجتمع على اختلاف أحوالهم وصفاتهم، لذلك لا نعجب إذا رأينا مالك بن الريب يتحول في لحظة؛ لأن الإيمان في قلبه موجود،تعظيم الله عز وجل في قلبه موجود لكنّ نفسه تغلبه، إذا مدّت إليه يد الخير تحوّل إلى خير.
هذا أبو الهيثم الحداد عى حاله وعلى صفته واستمراره فيما هو عليه ولكن يبقى في قلبه بقيةٌ من الإيمان وإن كان ضعيفاً يحمله في لحظاتٍ على أن يقوم مقام الصدق ويقف موقف الحق ويثبت إمام أهل السنّة فيقول له: لقد ضربت ثمانية عشر سوطٍ في طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فلا عليك أن تجلد في طاعة الرحمن لأجل الدين. فاستحق هذا الثناء العطر واستحق هذا الدعاء من الإمام أحمد أن يرحمه الله عز وجل
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين وصلة الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مَعْلَمٌ ثانٍ من معالم هذه الصبغة، أما المعلم الأول الذي ذكرنا فهو عمق الإيمان وأثره في هذا المجتمع، وأما المعلم الثاني لهذه الصفة فهو عمق الفهم والعلم والثقافة في هذا المجتمع، فإذاً الصبغة التي اصطبغ بها مجتمع المؤمنين تشتمل على وصفين أساسيين، وصف الإيمان الذي يسود هذا المجتمع ويتخلل في أعماقه حتى يصل إلى ضعاف الإيمان وإلى أهل المعاصي وأهل الكبائر وإلى اللصوص، وكذلك عمق العلم والفهم وانتشار الثقافة في هذا المجتمع الذي أنشئ أول ما أنشئ بقوله تبارك وتعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، قال تعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا وأمر الله سبحانه وتعالى نبيه فقال وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا لم يأمره سبحانه وتعالى ولم يرشده أن يطلب الزيادة في أي أمرٍ من أمور الدنيا إلا في العلم وفي العلم فقط وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا.
هذا المجتمع صبغته الإيمان وصبغته العلم والفهم والثقافة، هذا المجتمع الذي بني على الزامية التعليم وعلى تطوير التعليم وعلى مؤسسات كثيرة تعليمية، نسبة الأمية فيه أربعين بالمئة والستين في المائة في مجتمعنا دول الذين يفكون الخط على مستويات ومراتب متباينة، من يستحق منهم أن يوصف يثقافة أو علمٍ أو فهم إنما هم فئة قليلة في هذا المجتمع، أما هذا المجتمع المصطبغ بصبغة الإيمان فله وصفٌ وصفةٌ أخرى.
هذه بريرة، بريرة جارية؛ أمة صغيرة السن لم تلق تعليماً قط، لم تدخل مدرسةً قط ولا فصلاً لمحو الأمية، هذه الجارية أتت إلى عائشة رضي الله عنها تطلب منها أن تعينها في كتابتها، هي أمة عند أُناس سوف تدفع لهم مالاً لتكون حرّة، تطلب من عائشة رضي الله عنها أن تعينها، فقالت عائشة إن شئت دفعت لهم المال كاملاً وأعتقتك فأصبح ولائك لي، ففعلت فتحولت حرّة بعد أن كانت أمة وهي لازالت كما قلنا جارية صغيرة كان لها زوج اسمه مغيث، حينما تحولت الأمة إلى حرّة كانت بحكم الشرع مخيرةً بين أن تبقى تحت زوجها وبين أن تفارقه لأنها أصبحت أعلى منه درجة، هو عبد وهي حرة، وهذا ينافي أصل القوام، فإن اختارت أن تبقى بقيت وإن اختارت أن تفارق فارقت،فاختارت المفارقة فكان زوجها يدور ويجري وراءها في شوارع المدينة وهو يبكي ويتوسل إليها أن تعود إليه وهي تأبى عليه فرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو مع العباس رضي الله عنه، وكان صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً فأشفق على هذا الرجل المسكين، فنظر إلى العباس رضي الله عنه وهو إلى جواره، قال: ياعباس ألا تعجب من حب مغيث لبريرة ومن بغض بريرة مغيثا، ثم أراد صلى الله عليه وسلم أن يتوسط عند هذه الجارية لكي تعود إلى زوجها فأتاها فطلب منها ذلك، فماذا قالت الجارية؟
قالت: يا رسول الله أتأمر أم تشفع،،، أنظر إلى هذا العلم وهذا الفهم هي تميز في مقام النبوة العظيم بين مقامين متباينين، مقام الأمر ومقام الشفاعة، أما الأمر فيلزمها أن تستجيب إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا تلكؤ ولا تلبث ولا تريث وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا أم هي شفاعة، هي مجرد وساطة وإن كانت الوساطة من النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم فهي لازالت وساطة، هي مجرد شفاعة.
فقال صلى الله عليه وسلم: بل أشفع، فقالت: يا رسول الله لا حاجة لي فيه، فهي تميز هذا التمييز الواضح بين هذين المقامين المتباينين وتدرك هذا المقام وهذا المقام، ثم العجب أنه لم ينكر عليها أحدٌ من الصحابة أنها ردت وساطةً وشفاعةً للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لم يقل لها أحد: يا امرأة ألا تستحين أتردين شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا هم يعلمون أيضاً أن هذا حقٌ لها وأنه لا يحق لأحد أن يجبر أحداً على أمرٍ أباحه الله عز وجل له.
ثم نختم بقصةٍ في تاريخ بغداد للخطيب يقول فيها حاكياً عن أحمد بن معذب فقيه المالكية، يقول: دخلت على عبدالملك بن الماجشون – هذا إمام المالكية في زمانه تلميذ الإمام مالك فجاءه رجل من جلسائه فقال يا أبا مروان أخبرك بخبر عجيب، قال: وما هو، قال: خرجت إلى حائطي في الغابة يعني هو عنده بستان في الغابة :مكان خارج المدينة، كأنه عنده مزرعة في الصحراوي، فهو ذاهب إلى هذا المكان لكي يتفقد أحواله، يقول: فلما أصحرت – خرجت إلى الصحراء – وبعدت عن البيوت – بيوت المدينة – إذ لقيني رجل فقال: اخلع ثيابك، فقلت – يقول الرجل – وما يحملني على ذلك، قال: أنا أولى بها منك،قال: قلت ولم؟ قال: لأني أخوك وأنا عريان وأنت مكسي، – احنا أخوة وأنا عريان محتاج الملابس ديه وأنت لابس يعني فأنا عاوز الهدوم – ، قال: فالمواساة – يعني أنا هأعطيك الجاكيت مثلاً وآخد الباقي أو أعطيك الجاكيت والقميص وسيب لي البنطالون – قال: لا، لأنك لبستها زماناً – بقى لك كثير لابسها – وأنا أريد أن ألبسها، فقال أتعريني وتبدي عورتي، قال له – من الذي يقول، اللص!! – :لا بأس بذلك فقد روينا عن مالك – مالك الإمام مالك إمام أهل المدينة – يقول قد روينا عن مالك أنه قال: لابأس بالرجل أن يغتسل عرياناً، – عادي – قال: فيلقاني الناس وقد بدت عورتي – طيب بلاش دي،الناس هتشفني – قال: لو كنت في طريق يلقاك فيه أحد ما عرضت لك – أنا جئت لك في مكان ليس فيه أحد – قال: فدعني حتى أنطلق إلى حائطي – أدخل مزرعتي – فأبعث لك بها، قال: كلا تريد أن تبعث إليّ أربعة من عبيدك فيقيموا عليّ فيحملوني إلى السلطان فيحبسني ويمزق جلدي ويضع في قدمي القيد – أنت تريد أن تأتي بناس يربطوني ويدخلوني القسم – قال: أحلف لك أن أوفي لك بعهدي ولا أسوؤك، قال: كلا، فقد روينا عن مالك أنه قال: لاعبرة بالأيمان التي يحلف بها في النفوس، – أصل أنا أحلف للحرامي فأنا في حكم المكره والمكره لا يمين عليه وبالتالي فأنت هتتضحك عليا – فقال: أحلف لك أني لا أحتال عليك – أنا هحلف لك إن اليمين اللي أنا هقوله هذا يمين صدق لا أرجع فيه – قال: هذه يمين مركبة على أيمان لصوص – لا ينفع كذلك لأن اليمين الأول خطأ فاليمين الذي عليه خطأ – قال: فحلفت له أني أبعث إليه بالثياب، قال: فأطرق يفكر ملياً ثم رفع رأسه فقال: أتدري فيما أفكر قال: قلت :لا، قال: لقد تصفحت أحوال اللصوص من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا فلم أجد لصّاً أخذ بنسيئة، يعني ده أصلاً حاجة متنفعش يعني أنا قعدت بحثت في أحوال كل اللصوص من زمان النبوة إلى هذا اليوم فلم أجد لصّاً أخذ بنسيئة يعني أخّر الشخص اللي بيسرقه يعني يروح مشوار ويجيب له الفلوس، لأ لازم يأخذها حالاً ونقداً مينفعش إن هو يؤخرها، فلم أجد لصّاً أخذ بنسيئه وإني لأكره أن ابتدع في الإسلام بدعة ما سبقني إليها أحد، فاخلع ثيابك، قال: فخلعت ثيابي فدفعتها له، هذا الرجل وهذه الصبغة.
هذا الرجل اللص هو يروي عن الإمام مالك، رجل فقيه عالم، هذا ما نريد أن نقول إن هذه الصبغة التي اصطبغ بها هذا المجتمع، صبغة الإيمان وصبغة العلم والفهم والثقافة وصلت إلى سويداء هذا المجتمع حتى إن الإماء والجواري،حتى إن هؤلاء اللصوص والسرّاق أهل علمٍ وأهل فقهٍ وأهل دراية ربما تربوا على ما لدى من ينسبون اليوم إلى علمٍ وفقه من علمٍ ومن فهمٍ، فهذا الرجل اللص الذي ذكرنا ربما يكون أعلم من كثير ممن يعتلون المنابر ويتكلمون في مسائل الفقه، فالشاهد والمقصد الذي نريد إن هذه الصفة التي ذكرها الله تبارك وتعالى هي صبغةٌ أولاً يصطبغ بها الفرد قلبه وقالبه، يصطبغ بها المجتمع في صفة الإيمان وفي صفة العلم والفهم، هذا هو الذي يحول هذا المجتمع من مجتمع بعيد عن الله تبارك وتعالى إلى مجتمعٍ عابدٍ لله عز وجل صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، متعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدا ما أحييتنا وأجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.
اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا واهلك اللهم أعداءنا
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.