إن الحمد لله نحمده ونستعينه ،ونستهديه، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد……
حديثنا عن قصة الإنسان أول قصة استفتح الله بها كتابه فى صدر صورة البقرة, حديثنا عن قصة الإنسان فى هذه الحياة عن قصة الإنسان فى هذه الأرض و غاية وجوده و منتهى أمره.
قال الله عز وجل: ” كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ . وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ . فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ . فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”
هذه هى خلاصة رسالة الإنسان وخلاصة قصة الإنسان فى هذه الحياة الدنيا يجملها الله عز وجل فى هذه الآيات البينات من كتابه الكريم.
“وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” الله عز و جل قضى بحكمته وعلمه ورحمته وقدرته أن يخلق الإنسان لكى يكون خليفة فى هذه الأرض أى أجيال يعقب ويخلف بعضًا فى أداء رسالة الإنسان فى هذه الحياة.
قال الله عز وجل: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ“ الله عز وجل خلق الإنسان لرسالة وغاية، وجعلهم خلائف فى الارض يخلف بعضهم بعض لأداء هذه المهمة, فالله عز وجل يخبر الملائكة بإرادته سبحانه و تعالى على أن يخلف هذا الخلق.
فقالت الملائكة: “مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ” عجبت الملائكة من طبيعة تركيبة الأنسان ومن طبيعة خلقه ومن صعوبة الابتلاء والامتحان من الخير والشر.
وقال تعالى: “وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً“ أن هذا الانسان سوف يُمتحن امتحاناً عظيما وسوف يكون من الصعب على الإنسان أن يمتثل لأمر الله عز وجل، فقد استقر عند الملائكة أن الله عز وجل لا يخلق خلقاً ولا يفعل فعلاً إلا بقصد الخير والإصلاح، وبالتالى فهذا الإنسان إذا كان بهذه الصفة فإنه لن يسير على وفق مراد الله عز وجل.
ثم قال: “وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ“ ليس هذا اعتراض على أمر الله عز وجل ولكنه محاولةً للفهم والتعلم التماساً لوجه الحكمة من أفعال الله عز وجل؛ ولذلك قالوا “وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ” نُنزه الله عز وجل ونقدسه عن أن يفعل فعلاً فيه نقص أو عيب، فالله سبحانه وتعالى مُنزهٌ عن النقص والعيب فى خلقه وفى أمره، فالله سبحانه وتعالى لا يقضى إلا بالخير ولا يأمر إلا بالحق وهو العليم الحكيم. ” وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ”.
نحن إنما مهمتنا فى هذه الحياة أن نحقق العبادة الدائمة لله عز وجل “وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون” وقال تعالى عن وصف الملائكة ” وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبحُونَ“.
“قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ“ فالمخلوق دائماً علمه محدود وفهمه مقصور على خبرته وعلى علمه القاصر وعلى تجربته، أما الله سبحانه وتعالى فهو علام الغيوب هو سبحانه وتعالى العليم الحكيم يعلم ما كان وما يكون وما سيكون ويعلم سبحانه وتعالى مالم يكن لو كان كيف كان يكون فحتى الأشياء التى لم تحدث يعلم أنه إذا قدرها كيف كانت ستكون عليه قال تعالى: “وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ” يذكر الله عز وجل أن هولاء لو عادوا إلى هذه الدنيا فإنهم سوف يفعلون نفس الأفعال التى كانوا يفعلونها .. هم حينما عاينوا العذاب استشعروا عظم ذنوبهم فأرادوا الرجوع إلى الدنيا، لكنهم إذا رجعوا وغاب عنهم رؤية العذاب حينئذ سوف يفعلون تماماً مثلما فعلوا فى الحياة “ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ” “وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ“.
وهذا معيار الفرق بين المؤمن وغير المؤمن, المؤمن يؤمن بالغيب فعنده الجنة والنار ليقينه بها كأنه يراها بالعين ولذلك هو يعمل حساباً ليوم القيامة قبل أن يراه، أما غير المؤمن فعندما تكون هذه الحقائق غيباً فى نظره فلا يعمل لها حساباً لكنه يستشعرها حينما يراها.
“قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا“ أسماء الأشياء وأسماء الحقائق، فمصدر العلم هو الله عز وجل. قال تعالى:“يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء“. وقال: “وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ“ الله سبحانه وتعالى أخرج الإنسان من بطن أمه ليس عنده علم لكنه سبحانه وتعالى زوده بأدوات ووسائل العلم, السمع الذى يُصغى، والبصر الذى يراقب ويشارك، والقلب الذى يترجم هذه الحقائق ويستخرج من المرئيات والمسموعات علماً وخبرة وفهماً فمصدر العلم هو الله عز وجل “وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”
“قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ “ ولذلك الملائكة يعملون أنهم لا يعلمون شيئاً إلا بما علمهم الله عز وجل إلا بما أمده الله من أسباب العلم والفهم وبما ألقاه في قلوبهم هم يعلمون هذا علم اليقين “قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ “ ما علمتنا أياه هذا هو ما نعلمه وما لا تزودنا بعلمه فأنى لنا أن نعلم علمه.
الله سبحنه وتعالى هو العليم هو مصدر العلم، وهو الحكيم يعطى العلم من يشاء وينزعه ممن يشاء بحكمته سبحانه وتعالى، فأعطى آدم علما يحتاجه فى حياته وحجبه عن الملائكة لأنهم لا حاجة لهم به، فالله سبحانه وتعالى يعطى ويمنع على وفق علمه وعلى وفق حكمته، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يبين لهم فضل هذا المخلوق وأنه مؤهل لما خُلق له فبين الله عز وجل لهم بصورة عملية فضل آدم عليه السلام لم يذكر لهم أن آدم له فضل أو له علم ولكن بين لهم هذا بالصورة العملية فقال سبحانه وتعالى: ” قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ” فلما أنبئهم بأسمائهم تبين لهم حقيقة الحكمة الإلهية “فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ“.
كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يجمع فى مجلسه – مجلس الشورى – الذى كان يستشيره فى كل أمر ملم من أمور المسلمين يجمع فيه عقلاء الناس وأهل الفهم صغاراً كانوا أو كباراً ، شباباً كانوا او شيوخاً – فالمعيار ليس مجرد السن وإنما ما يستحقه الشخص من أوصاف بما حباه الله عزوجل- فوجد كبار الصحابة فى قلوبهم شيئًا من أن عمر يدخل معهم ابن عباس و هو صغير السن 15-16-17 سنة فقالوا: يجلس معنا هذا الغلام و فى أولادنا من هو مثله، فأراد عمر رضى الله عنه أن يبين لهم فضل ابن عباس رضى الله عنه فلم يذكر لهم فضل ابن عباس علمًا وفهمًا وإنما بين لهم بياناً عملياً كما بين الله عز وجل لملائكته بياناً عمليًا فسألهم عن قول الله عزوجل “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)“.
قال: ما تقولون فى هذا؟ قالوا: الله عز وجل يأمر نبيه إذا فتح الله عز وجل عليه مكة ودخل الناس فى الدين أفواجًا أن يجهد لسانه بتسبيح الله عزوجل وتحميده شكراً له على نعمته، فسأل عمر ابن عباس قال: و ما تقول انت يا ابن عباس؟ قال: هذا أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم قد نعى إليه. فقال عمر: ما علمت منها إلا ما علمت انت؟
الذين سألهم عمر رضى الله عنه أجابوا جوابًا صحيحًا ليس هذا جوابًا خاطئًا فهم قالوا أن الله عز وجل منَّ على نبيه صلى الله عليه وسلم بمنة عظمى ونعمة كبرى فواجبٌ على من منَّ الله عز وجل عليه بالنعم و المنن أن يشكر فضل الله عز وجل عليه فيكثر من التسبيح والتحميد؛ ولذلك تقول عائشة رضى الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت عليه هذه الآيات دائمًا ما يقول فى ركوعه: “سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي” لكن ابن عباس علم هذا أيضاً و علم وراءه معنى بعيدًا أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومهمة كل رسول أن يبلغ رسالة ربه عز وجل فإذا أدى رسالته وتمت مهمته فقد انقضت الحاجة إلى بقائه بين ظهرانينا وحينئذ فعليه أن يستعد الى لقاء الله عز وجل والانتقال إلى جوار ربه عز وجل فيستعد فى ختام عمله بالاجتهاد والاكثار من العمل الصالح استعداداً للقاء الله، فبين لهم عمر رضى الله عنه بهذا الفهم الفائق لابن عباس أنه يستحق أن يكون فى هذا المقام، كما أن الله عز وجل بين للملائكة فضل آدم عليه السلام بما حباه من علم يستطيع به أن يقوم بهذة المهمة التى أمره الله عز وجل بها وهى إقامة دين الله عز وجل فى الأرض.
ثم ثنى سبحانه وتعالى بأمر الملائكة بالسجود أى الانحناء لآدم تكريمًا له وامتثالاً لأمر الله عز وجل “وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا“ امتثلوا مباشرةً أمر الله عز وجل إلا إبليس كان حاضرًا شاهدًا وإبليس ليس من الملائكة قال الله عزوجل: “إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ“ فإبليس أصلاً هو من الجن ولعل الله عز وجل قد رفعه لهذا المكان لما كان يُرى عليه من اجتهاد ومن طاعة فى عبادة الله عز وجل كما ذكر كثير من المفسرين، فالله عز وجل رفع إبليس إلى هذا المكان وجعله قريناً للملائكة فى هذة المحلة لما أظهره من طاعة ومن عبادة لله عزوجل، فالله عزوجل لم يصطفي الملائكة لكونه قد خلقهم من نور وإنما لصفات اتصفوا بها، فكل من كان متصفاً بهذة الصفات فهو حقيق أن يُرفع إلى المكانة التى رفعهم الله عز وجل فيها، فالله عز وجل لا يحابى أحداً من خلقه عن أحد فليس بين الله عز وجل و بين أحد من خلقه نسب إنما يرتفع الإنسان عند الله بقدر ما يستحقه من عمل؛
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم “وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ” الإنسان له نسب شريف ينتسب به ربما كان نسبًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هذا لا يرفعه مكانةً عند الله إلا إذا كان مستحقاً لذلك ولذلك كتب أبو الدرداء رضى الله عنه وكان فى القدس كتب الى سلمان رضى الله عنه وكان فى المدائن فى العراق كتب اليه أن هلمَّ إلى الأرض المقدسة هاجر إلىِّ لكى نقيم فى هذه الأرض المقدسة. فماذا قال سلمان؟ قال: إن الأرض لا تقدس أحداً و إنما يقدس المرء عمله ما يرفعه عند الله سبحانه و تعالى هو عمله الصالح.
قال تعالى: “لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا” “وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ” . فأمرهم الله عز وجل بالسجود فسجدوا “فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ . إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ” فقال الله عز وجل كما فى صورة ص قال: “فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ . إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ . قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ . قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ“
وقال فى سورة الحجر : “قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ“ فالله عز وجل أمر الملائكة بالسجود وإبليس أقل منهم فى الدرجة والخلقة فالملائكة خلقت من نور وخلق الجان من مارج من نار، والنور أعلى أصناف المواد التى يخلق منها المخلوق فالملائكة الذين هم أرقى مكانًا و أعلى منزلةً امتثلوا أمر الله عز وجل فسجدوا كلهم لم يستثني منهم أحداً وإبليس الذى كان حاضرًا شاهدًا أبى أن يطيع أمر الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى وصفه بأنه “أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ”.
“أَبَى”: أي رفض أمر الله عز وجل، و”اسْتَكْبَرَ”: هذه هي العلة، فما الذي حمله على أن يرفض أمر الله عز وجل؟ الكبر فكان لذلك من جملة الكافرين، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ” .
فماذا قال إبليس مخاطباً ربه عز وجل: “قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ” ها هنا إبليس يرفض مباشرة أمر الله عز وجل ويطعن في حكمة الله عز وجل ويرفض الامتثال لأمر الله فيقف موقف المعلِّم لربه عز وجل ما ينبغي وما لا ينبغي ما يكون وما لا يكون هو يعلم ويصوب ويصحح لربه عز وجل – نسأل الله السلامة والعافية-.
“أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ” إذاً فالخالق هو الله فالشيطان لم يذكر شيئاً من فعل نفسه فيقول أنا مستحق .. لا لا هو يذكر مادة الخلق لأن أصل خلقتي نارية وأصل خلقته طينية فمن الذي خلق النار وخلق الطين؟ الله سبحانه وتعالى. من الذي يعلم من الذي يستحق الرفع ومن الذي يستحق الفضل؟ الله سبحانه وتعالى.
هو يقف مخاطباً ربه تبارك وتعالى الذي خلقه وخلق آدم وخلق الملائكة وخلق النور وخلق النار وخلق الطين، فيعلم ربه عز وجل ويصوب له، ثم يزعم أنه أفضل من آدم ليس لأنه أكثر تقوى قال الله – عز وجل – : “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ“ معيار القرب من الله تبارك وتعالى كما ذكرنا هو مقدار الطاعة والتقوى .. يقول: أنا أفضل من هذا المخلوق لأن أصل المادة الذي خلقت منها أفضل من أصل المادة الذي خلق منها ومن الذي خلق هذا؟ هو يزعم هذا بظنه ووهمه هو يظن أن عقله الذي آتاه الله إياه يفهم به أعظم من حكمة الله – عز وجل – مع أننا لو نظرنا نظراً ببادي الرأي لوجدنا أن الطين دائماً مقترناً بأنه مصدراً للخير وللطعام وللرزق، وأما النار فهي مصدر للتدمير والإفساد والإحراق، فهو يقف موقف المعلم والعياذ بالله فيقول: “قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ”.
قال تعالى: “قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ . وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ“ حينئذ مقتضى العقل والحكمة حينما يدرك المخلوق أنه تجاوز حده وأنه قد طغى وأنه قد تجبر أن يراجع نفسه ويتوب وينيب ويؤؤب إلى الله عز وجل ويستغفر ويسجد كما سجدت الملائكة.
“قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ“ يطلب المهلة لكي يتوب فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ .. “قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ . إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ . قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ“ فهو يضيف إلى ما فعل أنه يطلب من الله أن ينظره، فهو يعلم أنه مخلوق ضعيف لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأنه لا يبقى في هذه الحياة لحظةً إلا بإبقاء الله عز وجل له فهو يطلب من الله عز وجل أن ينظره لماذا؟ ليس لكي يتوب إلى الله ولكن لغواية وإضلال آدم وذريته وإبعادهم عن طريق الله عز وجل.
“قَالَ فَبِعِزَّتِكَ“ فهو يقسم بعزة الله عز وجل أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بتمكين الله عز وجل وإمهاله له، “قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ“ هنالك يعترف أيضاً بضعفه وعجزه وأن عباد الله عز وجل الذين هم في حياطة الله عز وجل الذين هم في حمايته وفي حرز كفايته وولايته سبحانه وتعالى أنه لا يستطيع أن يغويهم ولا أن يملك أن يملك لهم نفعاً ولا ضراً “إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ . وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ“ قال الله سبحانه: “إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ“ ولذلك أمرنا الله عز وجل دائماً أن نستعيذ بالله عز وجل لأن استعاذة العبد بالله عز وجل تقيه وتعصمه من كيد الشيطان وتقيه من وسوسة الشيطان ومن كيده .. نسأل الله عز وجل أن يجنبنا كيد الشيطان.
الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. كان هذا هو شأن الشيطان مع الله عز وجل فماذا كان شأن آدم هذا المخلوق المكرم من الله عز وجل “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ” الله عز وجل أباح لآدم الجنة بكل ما فيها وأن يستمتع بنعم الله عز وجل التي آتاه الله عز وجل إياها وهي كثيرة تفوق العد والحصر، ونهاه سبحانه وتعالى من أن يأكل من شجرة شجرة واحدة، فدائرة الحلال على كثرتها لا تقارن بدائرة الحرام على قلتها.
كثير من الناس يتصور أن الدين عبارة عن مجموعة من المحرمات وأنه كل شيئ يشتهيه الإنسان ويحبه فهو محظور محرم عليه وأن دائرة الحلال هي أقل من دائرة الحرام أو تساويها الله عز وجل ينفي هذا نفياً تاماً فالله عز وجل جعل دائرة الحرام في كل هذه الجنة المتسعة شيئاً واحداً ؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى حينما يبين للناس شرعه لا يعد لهم الحلال لأنه لا يعد ولا يحصى، وإنما يعد لهم الحرام هو يعد القليل لا يمكن أن يعد الكثير.
قال تعالى: “قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ“.
“قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا -ليس محللاً- طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ .. إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ -ومع ذلك- فحتى هذا الحرام إذا احتاجه الإنسان حاجة ضرورية واضطر إليه بحيث أنه إذا لم يأكله فإنه يموت حتى الحرام الله سبحانه وتعالى يحلله في أوقات الضرورة والشدة، فدائرة الحرام قليلة جداً لكن مهمة الشيطان هو أن يجعل فكر الإنسان لا يفكر إلا في هذا الحرام وأنه إذا لم يتناول هذا الحرام فإنه سوف تفسد حياته وسوف يفوته خير كثير.
“وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ . فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا” أي أزل أقدامهما فسقطا في معصية الله عز وجل “فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى” هو أتى على هذا الحرام الذي حرمه الله عز وجل فصور له أن هذا الحرام هو الخير بالنسبة له ليس شراً وهذا هو أصل الفساد أن يصور الشيطان للإنسان أن الشر هو في حقيقته خير له، وهذا هو معنى التزيين الذي هو أن يكون الشيئ ليس جيدًا ومشوهَ الصورة وقبيحاً فيحسنه ويجمله وليس هذا حقيقةً له، وأصل هذا هو سوء الظن بالله عز وجل، هل الله عز وجل الذي يريد للإنسان الخير كل الخير يحرم عليه شيئا لكي يشدد عليه ويضيق عليه؟
الله عز وجل لا يحرم على الإنسان شيئاً إلا إذا كان مضراً له ، لكن الشيطان يصور له أن الله عز وجل إنما منعك هذا لأنه لا يريد لك الخير، وأنا أنا _الشيطان_ الذي أحب لك الخير “هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى”.
وقال الله عز وجل: “وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ“ أقسم لهما بالله عز وجل قسمًا مغلظًا .. هذه هي مهمة الشيطان يأتي للإنسان فيزين له الشر والحرام الذي حرمه الله عز وجل عليه ويحسنه ويجمله ويبين له أن هذا هو الخير له وأن الله عز وجل إنما نهاه عنه لأنه لا يحب له الخير؛ ولذلك وصف الله عز وجل المنافقين والمشركين بأنهم “الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ..” فأساس الفساد أن الإنسان يظن بالله ظناً سيئاً عندما يظن أن الله عز وجل يريد أن يضيق عليه يريد أن يجعل حياته حياة تعاسةً ونكداً وغماً وشقاءً هذا هو سوء الظن بالله عز وجل.
“مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ“ وقال تعالى: “يرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا . يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا “.
هذا هو كلام الله عز وجل فالشيطان يأتي ويدخل للإنسان من مدخله الذي لا مدخل له إلا إياه محبته للبقاء في الدنيا والملك فيها، الإنسان آفته هي الحرص على الدنيا والحرص على البقاء فهو يعرف من أين يدخل للإنسان ثم يضيف إلى ذلك أنه يقسم له بالله أنه ناصحاً له فالإنسان الذي عنده أصل تقوى الله والخوف من الله لا تستطيع أن تسيطر عليه إلا أن تزين في نفسه الدنيا، ولابد أن تجمع إلى ذلك أن تبين له أن هذا خير أو أن هذا حق، أقسم لهما بالله .. وآدم لسلامة فطرته لا يتصور أن أحداً يقسم بالله وهو يكذب تعظيماً لله عز وجل .. فلابد أن يضيف إلى الشهوة شبهةً. فلا يدخل الشيطان للإنسان إلا من هذين المدخلين:
الشبهات بأن يعكر له وجه الصواب من الحق ويزين له الباطل.
وشهوات موجودة مغروزة في نفس الإنسان يحاول أن يجملها ويزينها له.
وفعلاً استطاع الشيطان أن يوقع آدم فيما أوقعه فيه، فلما وقع آدم في المعصية ماذا فعل؟
أولاً: ظهرت له آثار المعصية “فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا“ إذاً ظهر له أن إبليس يكذب وأنه حينما تناول ما حرمه الله عز وجل عليه أصابه الشر لم يصبه الخير لا يمكن الإنسان أن يحيد الإنسان عن طريق الله فيصيبه الخير ابداً . حينما أدرك هذا أراد أن يتوب إلى الله عز وجل لكنه لا يعرف كيف التوبة فالله عز وجل وفقه وهداه إلى طريق التوبة “فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” “قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ“ فالله عز وجل امتحن آدم بهذا الامتحان قبل أن ينزله إلى الأرض لكي يعلمه ويعلم بني آدم جميعاً حقيقة هذه الحياة الدنيا.
نحن الآن أمام نموذجين نموذج آدم ونموذج إبليس. إبليس العبد الذي يعترض على أمر الله عز وجل الذي يرفض حكم الله عز وجل الذي يرفض شرع الله عز وجل الذي يرى أنه سوف يأتي بعقله بما هو أفضل وأمثل من حكم الله، والذي يصر على ما يفعل والذي يأخذ على نفسه عهداً بإضلال العباد عن طريق الله عز وجل، أما آدم والآدمي الذي هو ابن آدم فهو حينما يتلقى أمر الله عز وجل حينما نهى الله عز وجل آدم عن الأكل من الشجرة امتثل أمر الله عز وجل مباشرة “مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا“ قال تعالى: “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا“ فالآدمي يمتثل لأمر الله عز وجل لكن ربما تغلبه نفسه ربما يغويه الشيطان ربما يعصي أمر الله عز وجل ربما تتغلب عليه شهواته في لحظة من اللحظات حينئذٍ عليه أن يسارع بالتوبة والأوبة والعودة إلى الله عز وجل ولا يصر كما أصر إبليس على معصية الله عز وجل.
فعلى كل امرئٍ أن يكون ابناً لأبيه لا ابنا لعدوه، ابناً لأبيه بأن يمتثل لأمر الله بدون مناقشة علماً يقيناً أن الله عز وجل هو الحكيم العليم، وأنه إذا زل إذا استهواه الشيطان أنه يسارع إلى ربه عز وجل ولا يتجافى عن جناب الله ولا عن باب الله عز وجل، وليعلم أن الخير كل الخير هو في طاعة الله عز وجل لذلك قال الله عز وجل في سورة طه حينما أمر آدم بالهبوط “قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى“.
هما فريقان لا ثالث لهما إما أن يتبع هدى الله فحينئذٍ الله سبحانه وتعلى يعده وعدين فهو لا يضل وهو لا يشقى، وأما المعرض عن الله عز وجل الذي ويعطي الله عز وجل ظهره فهذا له معيشة الضنك الضيق والهم في الدنيا ثم يحشر يوم القيامة أعمى.
فالله عز وجل بين لنا في هذه القصة العظيمة حقيقة حياة الإنسان في هذه الدنيا وحقيقة المكر والكيد الذي يجابهه وماذا عليه لكي يعالج هذا الأمر ..
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما قلنا وسمعنا..