الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
لازلنا في الكلام عن اتصال العبد بالسماء وذكرنا بالأمس أن للإنسان روحاً إنما هي منة من الله تبارك وتعالى وجزء من الملأ الأعلى تطلب الصعود والرقي دائماً إلى حيث الملأ الأعلى وكلما اتصلت هذه الروح بالسماء كلما سكن العبد وهدأ واستقر وكلما بعد اتصال الروح بالسماء كانت المعيشة الضنك كما أخبر الله تبارك وتعالى وانتهينا إلى حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح مسلم وقوله: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ – قلنا صوت صرير الباب وهو يفتح – فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: ” هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ ” فمسى فاتحة الكتاب نوراً وسمى خواتيم البقرة نوراً.
في صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزَلَتْ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ،جاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجثو على الركب فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدِ اُنْزِلَتْ عَلَيْكَ اليوم الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ” ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا قالوها وذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قال الله تبارك وتعالى قد فعلت.
هذا الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه هكذا نقرأه إذا قلنا من جملة من يقرأ لكننا إذا عدنا إلى الحديث مرة أخرى سمعنا أبو هريرة رضي الله عنه يقول لما نزلت لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذه آية واحدة من آيات كتاب الله عز وجل ينزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الواحدة نحن إذا قرأنا في كتاب الله عز وجل أقل مقدار يقرأه الإنسان إذا أراد أن يقول أنه قد قرأ يقرأ ربعاً أو ربعين من كتاب الله ليس منا من يقرأ آية في كتاب الله فيرى أنها كافية شافية وافية لكن ربنا تبارك وتعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام من السماء بآية واحدة من آيات كتاب الله عز وجل هذه الآية الواحدة زلزلت أرجاء المدينة وهزت قلوب الصحابة حتى جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة وبهذا الحال لما نزلت هذه الآية يقول أبو هريرة رضي الله عنه جاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجثوا على الركب هذه الجلسة جلسة المتذلل المتضرع المتوسل يقولون ” يا رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدِ اُنْزِلَتْ عَلَيْكَ اليوم الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا ” .
فالصحابة رضي الله عنهم حينما نزلت هذه الآية فأمروها على أنفسهم تفكروا فيها وتدبروا فوجدوا أن ربهم عز وجل يقول في هذه الآية إن الله سبحانه وتعالى سوف يحاسب عباده على ما يجول في خواطرهم وعلى ما تنطوي عليه نفوسهم فلما تفكروا في ذلك رأوا هذا أمراً عظيماً لا يطيقه الإنسان أن الله سبحانه وتعالى يحاسب الإنسان أو يؤاخذه على كل ما يجول في نفسه من خواطر أو من هواجس أو من أفكار ربما يلقيها في قلبه الشيطان فهم كانوا إذا قرأوا آيات كتاب الله سبحانه وتعالى المتنزل عليهم تفكروا في هذه الآيات عرضوا أنفسهم على هذه الآيات تفكروا في حالهم وفي إطاقتهم للقيام لحقوق الله عز وجل المضمنة في هذه الكلمات الإلهية المتنزلة فلما تفكروا في ذلك رأوا أنهم لا يطيقون أن يحاسبوا على هذا يبقى إذن نفوس الصحابة التي هي أكمل النفوس هي في الحقيقة أيضاً نفوس بشرية ربما كثير منا يتصور الدين أو يتصور الصورة التي تراد من الإنسان أنن يراد منه أن يتحول من عبد بشر إلى ملك من ملائكة الله عز وجل الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون الله سبحانه وتعالى أنزل هذا القرآن للإنسان وهو سبحانه وتعالى العليم بطبيعة الإنسان هو الذي قال عز وجل: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا طبيعة الإنسان أنها تحتمل الخطأ والصواب يصيب أحياناً ويخطيء أحياناً يغويه الشيطان أحياناً لكنه يتوب ويرجع إلى الله عز وجل فرأوا أنهم إذا حوسبوا على كل خاطرة إنهم هالكون لا محاله فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجثوا على الركب هذا الجثي منهم على الركب ليبينوا أنهم ليسوا في مقام الاعتراض أو في مقام الرفض لأمر الله عز وجل بل هم في مقام التسليم ولذلك أتوا بصورة التضرع والتوسل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلب من ربه عز وجل أن يخفف هذا عنهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على هذه الحال ” أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ” .
يبقى إذن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يفعلوا مقتضى الإيمان.. مقتضى الإيمان أن يسلم الإنسان لأمر الله عز وجل وإن رآه شديداً وصعباً ويطلب مع ذلك من الله سبحانه وتعالى تخفيفه ورحمته وغفرانه ” سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا – ثم قولوا – غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ” يقول: فَلَمَّا قالوها وذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ. بقوا يكرروا هذا الأمر الذي أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فعلوا ذلك أَنْزَلَ اللهُ عز وجل جبريل عليه السلام بهذا التخفيف وهذا النور الذي ذكرنا في حديث ابن عباس لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ فأنزل الله عز وجل: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ قولهم سمعنا وأطعنا تسليمهم لأمر الله عز وجل هذا هو حقيقة الإيمان كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أنزل الله سبحانه وتعالى كلماته التي تتلى مطابقة لدعائهم الذي دعوا والذي علمهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فلما كان هذا.. كان التخفيف وكانت الرحمة من الله عز وجل فأنزل الله سبحانه وتعالى بعدها لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا هذا قانون وقاعدة إلهية لا تتبدل ولا تتغير فإذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بأمر فلابد أن يكون هذا الأمر في طاقة الإنسان في مقدوره أن يفعله وأن يمتثله بل تأتي الاوامر الإلهية بأقل مما يطيقه الإنسان لأن الله سبحانه وتعالى قال وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ الحرج هو الضيق فالله سبحانه وتعالى لم يأمرنا بأمر فيه حرج وضيق وإن كنا نطيقه بل يأتي الأمر الإلهي بأقل من مقدور الإنسان وطاقته لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال الله عز وجل قد فعلت رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا أي ثقلاً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قال الله عز وجل قد فعلت رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قال الله عز وجل قد فعلت وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قال الله عز وجل قد فعلت لذلك نزل هذا الملك من السماء بتصديق هذه الكلمات ” لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ ” أي لن تدعو ربك عز وجل بدعاء من جملة الدعاء الموجود في الفاتحة أو الموجود في خواتيم البقرة إلا واستجاب الله عز وجل لك ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في تصديق ذلك ” إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ ” الله سبحانه وتعالى من رحمته خفف عنا فلا يؤاخذنا بما يجول في خواطرنا وبما توسوس به نفوسنا ما لم نحول هذا إلى فعل بقول أو عمل ” إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ ” .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.