يردوكم عن عبادة ربكم تبارك وتعالى فلم يبقى إلا الأذى فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ الله تبارك وتعالى يخبر أنه بعد أن أنزل هذا الدين بعد أن امتن بهذه المنّة أنه سبحانه وتعالى قد أكمل هذا الدين وأتمه وجمّله وحسّنه فنسب الإكمال إلى نفسه تبارك وتعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وجعل هذا منه تبارك وتعالى منّة عظيمةً ونعمة كبرى، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا الله عز وجل رضي لنا هذا الدين وتقبّل تبارك وتعالى منّا هذا الدين وهو بذلك قد سخط وقد ردّ كل ما سوى ذلك من الأديان والملل والنحل، فهذه نعمة عظمى من الله تبارك وتعالى ولذلك قال رجلٌ من يهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:لو نزلت علينا هذه الآية لاتخذناها عيداً الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فقال عمر رضي الله عنه: ألا إني أعلم متى نزلت وأين نزلت، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقفٌ بعرفة في حجّة الوداع
أراد عمر رضي الله عنه أن يقول، إن الله عز وجل قد جعلها عيداً لأنه أنزلها سبحانه وتعالى في يوم عيد فهي عيدٌ من دون أن نتخذها عيداً بل إن الله تبارك وتعالى هو الذي جعلها كذلك بتخيره لهذا الزمان وهذا المكان لتنزيل هذه الآية العظيمة، هذه النعمة الإلهية الكبرى إنما تقوم على أمرين أساسيين:
الأمر الأول: وحيٌ أوحاه الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كتابٌ أنزله الله تبارك وتعالى فيه تبيانٌ لكل شيء ومضاف إلى هذا الكتاب وتممه تفسيرٌ وتأويلٌ وتبيانٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هذا هو الأمر الأول: وحيٌ متنزلٌ من الله تبارك وتعالى يفسره ويبيّنه ويوضّح مجمله ويبين مشكله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الأمر الثاني: بيانٌ عملي وتطبيقٌ فعلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الدين في واقع الحياة وفي حياة الناس، كيف يكون هذا الدين، كيف يطبّق في واقع الحياة؟، ما هي حقيقة الصورة التي ارتضاها الله عز وجل وأكملها وجمّلها وجعلها نعمة عظمى؟ هذا هو البيان بالفعل وبالممارسة في صورة حياة واقعية اجتماعية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك جعل الله عز وجل الرسول صلى الله عليه وسلم قرين الوحي المتنزل قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو الذكر هو الوحي المتنزل من السماء، الله سبحانه وتعالى جعل الرسول صلى الله عليه وسلم في جملة وفي ضمن هذا الذكر المتنزل من عند الله تبارك وتعالى، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ فإذاً هذه المنّة وهذه النعمة الإلهية العظمى التي لا نقدرها حقّ قدرها لا نعرف لها عظمتها ووزنها وقيمتها تتمثل في وحيٌ إلهي متنزل وواقع تطبيقي لهذا الوحي في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حركته في هذه الحياة لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا فنحن لا نحتاج لكي نعي هذا الدين ولكي نفهم ونقدر هذه المنّة حق قدرها إلا أن نتأمل في واقع حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كان يبثّ هذا الدين في قلوب الناس، وكيف كان يتحرك به في واقع الحياة وكيف كانت حياة هذا المجتمع الذي كان يحيا بهذا القرآن وكان يعايش رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونحن لن نزيد على أن نورد بشكلٍ عشوائي بعض صورٍ من صور هذه الحياة وبعض صور من صور هذا الواقع الذي كان يحياه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي نتصور حقيقة هذا الدين وحقيقة هذا المجتمع وصورته وشكله الذي عدّه الله عز وجل مجتمعاً مثاليّاً في تطبيق الدين، وجعل هؤلاء الناس الذين كانوا يحيون في هذا المجتمع هم أهل الرضا من الله تبارك وتعالى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
فأول ذلك حديثٌ ربما مرّ علينا كثيراً وسمعناه كثيراً وهو ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: أتى شاباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فزجره الناس وقالوا: مه مه، أي: اكفف واسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّوه ثم قال: ادنو، فدنا منه قريباً فجلس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحبه لأمك، قال: لا والله جعلني الله فداك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، أترضاه لابنتك، قال: لا والله جعلني الله فداك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا الناس يحبونه لبناته، أترضاه لأختك، قال: لا والله جعلني الله فداك، قال:ولا الناس يرضونه لأخواتهم، أترضاه لعمتك، قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يرضونه لعماتهم، أترضاه لخالتك، قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يرضونه لخالاتهم، ثم وضع يده عليه صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم اغفر ذنبه وطهّر قلبه وحصّن فرجه، قال أبو أمامة: فما كان الفتى بعد ذلك يلتفت لشيء.
هذا الشاب الذي يأتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيخاطبه بهذه الكلمات، قطعاً قد تفكّر مليّاً وتردد كثيراً قبل أن يأتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيشافهه بهذه الكلمات التي يعلم أنها سوف تثير نفوراً وسوف تثير زجراً وانتهاراً لكنه مع ذلك أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشافهه وخاطبه بهذه الكلمات فإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفزع أهل الإسلام من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ملاذهم وكان ملجأهم في كل أمر ينتابهم في حياتهم الخاصة والعامة وفي كل مشكلة تعرض لهم وفي كل أزمة تصيبهم.
قال الله تبارك وتعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ
فإذا عرضت لأحدهم قضية، إذا أشكل على أحدهم أمر أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارحه بما يجول في نفسه، وبما يتردد في خاطره، وبما يعاني منه وبما يقاسيه من صراع نفسي داخلي.
فهو صلى الله عليه وسلم : أحق بقول أبو الجهم رضي الله عنه، نميل على جوانبه كأنّ نميل إذا نميل على أبينا
في تاريخ دمشق أن أبا الجهم بن حذيفة رضي الله عنه وفد على معاوية رضي الله عنه في خلافته في دمشق – الشام – نسأل الله عز وجل أن يعافي الشام وأهلها، فجرى بينهما كلام فتكلم أبو الجهم مع معاوية رضي الله عنه بكلام غليظٍ وشدد عليه في القول حتى غمّ – أوقع في قلبه الغمّ والضيق لشدّة ما خاطبه به ولشدّة ما آذاه من قوله، فأطرق معاوية رضي الله عنه ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان ويبطش بطش الأسد – بيزعل زي العيل الصغير، أي شيء يزعله، وبعد ما يتنرفز رد فعله أشد وأغلظ ما يكون.
فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان ويبطش بطش الأسد ثم أمر له بمال كثير فحينئذٍ أنشأ أبو الجهم يقول مادحاً له ومثنياً له على فعله وعلى حلمه وعلى عطائه وجوده، فقال: نميل على جوانبه كأنّ نميل إذا نميل على أبينا
بنركن عليه ونلقي عليه بأثقالنا وأحمالنا كما يميل الرجل على أبيه ويلقي عليه أو على كاهله أثقاله وهمومه ومشكلاته
نميل على جوانبه كأنّ نميل إذا نميل على أبينا
نقلّبه لنخبر حالتيه فـ نخبر منهما كرماً ولينا
نقلبه لنخب حالتيه يعني في حال السراء وفي حال الضراء في حال العسر وفي حال اليسر في حال ما نسره وفي حال ما نغضبه ننظر ماذا فعله فلا نجد منه إلا الكرم واللين.
فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ وأولى بهذه الكلمات
نميل على جوانبه كأنّ نميل إذا نميل على أبينا النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
في موطأ الإمام مالك والحديث أصله عند مسلم عن فاطمة بنت قيس أنّ أبا عمر بن حفص زوجها طلّقها البتة أي الطلقة الثالثة وهو بالشام فجاء وكيله ابن فكيهة إليها بحمل من شعير، أتى لها بشيء من شعير، فسخطته – لا يعجبها تريد أكثر من ذلك – فقال لها الرجل: والله ما لك علينا من شيء – ده كده يعني – مننا هبة لكن ليس لك علينا مال لأن العلاقة قد انفصلت والثالثة قد وقعت
فأتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله – هل هذا الكلام صحيح أم خطأ – فقال: ليس لك عليه نفقة، ثم أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم رضي الله عنه قال: فإذا حللت فآذنيني، يعني: إذا انقضت العدّة فأخبريني، فلما انقضت العدّة أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته أن أبا جهم بن حذيفة ومعاوية بن أبي سفيان خطبها، أبا الجهم ومعاوية، الذين كانا معنا في هذا الموقف.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه – يعني هو يغضب كثيراً ويضرب النساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، هو شاب لم يصبح معه مال، فقال: انكحي أسامة بن زيد، هذا معاوية الذي كان حينئذٍ صعلوكٍ لا مال له، لما أتاه أبا جهم بعد ذلك كان هو أمير المؤمنين الذي يعطي ويمنع، الذي يمنح الناس عطاياهم، وهكذا تتقلب الدنيا بأهلها فقال: انكحي أسامة بن زيد.
وهذا يدلّ على إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه أو لا يبع أحدكم على بيع أخيه إنما المقصود بعد حدوث الاتفاق يعني إذا حدث اتّفاق على الخطبة أو اتفّاق على صفقة بيع، لا يحلّ لمسلم أن يفسد هذه الخطبة أو يفسد هذا البيع أما إذا كان قبل ذلك كان هذا مجرّد عقد، ليس هناك اتّفاق فحينئذٍ يجوز للإنسان أن يخطِب أو أن يبيع وأن يشتري، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: انكحي أسامة بن زيد بعدما خطبها أبو الجهم وخطبها معاوية رضي الله عنه.
قالت: فكرهته، هي امرأة من قريش وهو مولى من الموالي، أمه أم أيمن رضي الله عنها وهو أسود اللون فقال النبي صلى الله عليه وسلم : انكحي أسامة، قالت: فنكحته فجعله الله عز وجل به خيراً.
وهكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قلنا هو مشارك لهم تمام المشاركة في حياتهم الإجتماعية يلجأون إليه في كل أمر هو ينصحهم ويرشدهم ويوجّههم لما فيه الخير والمصلحة في الأولى والآخرة.
نعود إلى هذا الذي يستأذن بالزنا، فهو يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشافهه بهذه الكلمات، فماذا قال؟ قال: يا رسول الله ائذن لي.
كان بإمكانه أن يأتي الفعل حراماً ولا يفضح نفسه بهذه الكلمات بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته لكن هذا هو أثر الدين وأثر الإيمان في قلب العبد، وهذا هو أعظم شيءٍ نفهمه، ما في قلبه من تعظيم الله عز وجل ، ما في قلبه من الخوف من الله تبارك وتعالى يحجزه ويمنعه عن أن يأتي هذا الفعل حراماً، هو يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلّه يجدله في شرعه وفي دينه الذي علمه كما علمه الناس جميعاً سهلاً سمحاً هيّناً ليّناً ليس فيه مشقّة وليس فيه شدّة لعلّه يجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرع وفي الدين مخرجاً لما هو فيه يرفع عنه ضغط هذا الذي يشعر به ويحسه، وهو في نفس الوقت لا يعصي الله تبارك وتعالى، فهو يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم اذناً واستثناءً يبيح له أن يفعل هذا الفعل، وهذا هو أثر الإيمان في القلب ولذلك كان تنزيل الوحي وتنزيل الدين من عند الله تبارك وتعالى مرتّباً يبدأ بالإيمان، يبدأ بتعظيم الإنسان لله تبارك وتعالى، يبدأ بإستشعار الإنسان لجلال الله تبارك وتعالى فإذا وقع هذا في القلب حينئذٍ قيل له افعل كذا ولا تفعل كذا، ولذلك كان الخطاب في كتاب الله عز وجل في كل أمرٍ ونهي مصدّراً بهذه الكلمات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وقع الإيمان منهم أولاً، وقع الإيمان في قلوبهم أولاً، حينئذٍ يخاطبون بافعل ولا تفعل لأنهم حينئذٍ ما في قلوبهم من الإيمان سوف يحملهم على أن يقوموا بما أمر الله وأن ينزجروا عن ما نهى الله عز وجل ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها مبيّنةً هذا المعنى، كان أول ما نزل – أي من كتاب الله – آيات فيها ذكر الجنة والنار، الترغيب في رضوان الله والترهيب من عذاب الله تبارك وتعالى حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، عاد الناس إلى الدين، وانظر إلى هذه الكلمة، هو يخاطب قوماً ولدوا في الإشراك، لم يكونوا قبل مسلمين، هم لم يكونوا مسلمين ثمّ خرجوا ثمّ عادوا، لكن هي عبّرت ” حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام ” أي رجعوا لأنهم بأصل فطرتهم الذي فطرهم الله عز وجل عليها مسلمين حنفاء هم ولدوا هكذا، كل مولود يولد على الفطرة لكن الشيطان يجتال الناس عن دينهم.
قالت: حتى إذا ثاب – أي رجع – الناس إلى الإسلام، نزل تحريم الخمر وتحريم الزنا، تقول عائشة: ولو كان أول ما نزل ” لا تشربوا الخمر ” لقالوا ما تركنا الخمر أبداً ولو كان أول ما نزل لا تزنوا، لقالوا: ما تركنا الزنا أبداً، لقد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب – أي في مكة – بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ وما نزلت سورة البقرة والنساء – أي التي فيها الأحكام إلا وأنا عنده، زوجته صلى الله عليه وسلم في المدينة، فإذاً يأتي الإيمان أولاً، يأتي تعظيم الله تبارك وتعالى أولاً، حينئذٍ يأتي بعده افعل ولا تفعل، وحينئذٍ يستطيع الإنسان بما في قلبه من وازع الإيمان من وازع التقوى والخشية لله تبارك وتعالى، حينئذٍ وحينئذٍ فقط أن يمتثل الأمر وأن يجتنب النهي فهو يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستأذناً إياه في أن يفعل هذا.
وهكذا ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ولم يكن هذا أبداً عيباً في تربيته صلى الله عليه وسلم ، إنه يتعامل مع بشر فيهم طبيعة البشر وفيهم ضعف البشر وفيهم قصور البشر يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا هكذا قال الله تبارك وتعالى الذي خلق هذا المخلوق الضعيف فهو يعاني وهو يضعف ويجتاح الشيطان قلبه أحياناً، لكن يسعى أن يجاهد نفسه ويأطر نفسه على طاعة الله تبارك وتعالى.
فربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على المصارحة وعلى المكاشفة وعلى الوضوح هو أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأفصح له عما في داخله، يبحث عن حلٍّ يبحث عن علاج لهذه المشكلة، فكان ردّ فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا جلوس أن قهروه وزجروه وقالوا ” مه ” أي اكفف واسكت، وهذا لا يدع سيئة ولا يعالج مشكلة، التغاضي عن المشاكل أو الانكفاف عنها أو أمره بالسكون هذا لن يزيل ما في قلبه، هذا لن يعالج الداء الذي يعاني منه، هو لن تعالج مشكلته إلا إذا أفصح عما بداخله، إذا بدأ يبحث عن حلٍّ لما يعاني منه وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقربوه أي دعوه واتركوه، ثم قال: ادنو، وفي رواية قال: يا ابن أخي ادنو، يالا الخطاب الرقيق، ” يا ابن أخي ادنو ” فدنى حتى كان قريباً منه فجلس، جلس إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه، لابد من هذا القرب لكي يتم علاج المشكلة، لابد على كل امرئ منّا أن يكون قريباً ممن أنيط به مسؤليته قريباً من أولاده مطّلعٌ على مشكلاتهم كي يساعدهم ويعينهم على حلّها، أما التغاضي وترك الالتفات، فهذا لا يزيد الأمور إلا سوءاً، هذا إذا ردّوه ماذا كان يصنع؟ كان سوف يأتي هذه الفاحشة المحرّمة لإنه لم يجد عندهم حلّاً بل أبوا أن يصغوا له أو أن يستمعوا إلى مشكلته وما يعانيه.
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فأدناه إليه وخاطبه وذكّره بهذه الكلمات، النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له إن الزنا قد حرّمه الله، هو يعلم ذلك، ولذلك يطلب إذناً في هذا، لم يكرر عليه الآيات التي تحرم الزنا وتبيّن عقوبته، لأن هذه ليست مشكلة وهذه الآيات إذا تليت عليه في هذا الموطن فإنها ليست علاجاً لحالته.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكره بأمور ذكره بما يستشير في نفسه النفرة من هذا الفعل، بأن ردّ هذا الفعل إلى محارم هذا الفتى؛ إلى أمه،وابنته وأخته وعمته وخالته، فإذا استشعر ذلك تولد عنده النفرة من هذا الفعل والبغض له، فهذا الدين الذي أنزله الله هو دين الفطرة، فالإنسان بفطرته ينفر من هذه الأفعال لذلك لما ردّت إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر أمه فقط أو جمعهم جميعاً في مساقٍ واحد ” أترضاه لأمك أو ابنتكأو…. ” ذكرهنّ واحدة واحدة، وانتظر منه الإجابة في واحدة واحدة لكي يعظم في قلبه الشعور بالنفرة من هذا الفعل الشائن، وذكّره أن المؤمنين كالجسد الواحد وكالحمة الواحدة وأنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأنه إذا وقع في هذا الفعل فاستشرى كانت عاقبة ذلك ولابد سوف تصيبه يوماً ما في أحدٍ من أقاربه أو أحدٍ من محارمه، وأنه سوف يكتوي يوماً ما بهذه النار التي أوقدها حينما وقع في هذا الفعل.
وحينئذٍ قال الفتى ” لا والله جعلني الله فداك ” وكرر هذه الكلمة في هذه الجمل الخمس التي خاطبه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ” جعلني الله فداك ” هذه الكلمة تدل على مقدار ما في قلبه من الحب ومن التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه يقول في كلماته تلك أنه على استعداد أن يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله هكذا كانت محبتهم وكانت مشاعرهم تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أن ألقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات ووقعت موقعها في قلبه، واستشعر النفرة من هذا الفعل لم يكتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، بل وضع يده على صدره ودعا له بأن يغر الله عز وجل له ذنبه، وأن يطهّر الله عز وجل له قلبه وأن يحصّن الله عز وجل له فرجه.
فهو لم يكتف بأن نصحه ووعظه بل أخذ كل سبيل يمكنه أن يأخذه لكي ييسر له ترك هذه المعصية ولكي يعينه على تطهير قلبه وعلى نجاء نفسه، فأضاف إلى ذلك دعاءً لعل الله عز وجل أن يصرف عنه، وهذا يدل على عظيم أمر الدعاء وعلى أنه لا يكفينا نبيّن الأحكام أو أن ننصح أو أن نرشد فقط، بل علينا أن نتخذ كل سبيلٍ وكل وسيلةٍ لإعانة كل إنسانٍ يحتاج إلى عون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والقصة الثانية: قصة خوّات بن جبير رضي الله عنه يقصّها بنفسه كما عند الطبراني في المعجم الكبير، يقول: أنه كان خارجاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر حتى إذا كانوا في مرّ الظهران يقول: خرجت فإذا نسوة يتحدثون يقول: فأعجبنني، يقول: فأتيت مكان غير اللي هو قاعد فيه، قال: فاستخرجت عيبتي – الهاند باج – فأخرجت منها حلّة – ثوب شكله جميل – فلبستها – لأجل أجلس مع الحريم – ثم خرجت فجلست معهم،فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباءٍ فمرّ عليّ فقال: يا أبا عبدالله مالك مع النسوة، يقول: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هبته واختلطت، – لم يكن يتوقع أن النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر فتلخبط –
فقال: يا رسول الله جملٌ لي شرد فأردت له قيداً – يعني في جمل مني تاه فسيضفرون له حبل ليبحث عن الجمل –
قال: فاتبعته، – قهو لا يدري ماذا يصنع – ، فألقى إليّ رداءه ودخل في الآراك – وسط شجر الآراك – لكي يقضي حاجته، فقضى حاجته وتوضأ وخرج ولحيته تقطر ماءً على صدره.
فقال: يا أبا عبدالله ما فعل شراد جملك؟ – ايه أخبار الجمل بتاعك – ، قال: فسكت واستحييت، ثم ارتحلت. خارجين ليرجعوا إلى المدينة، فكان كلما لحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: السلام عليك يا أباعبدالله، ما فعل شراد جملك، ايه أخبار الجمل بتاعك.
وهنا لحقني النبي صلى الله عليه وسلم دائماً كان يمشي في آخر الركب، لا يمشي في الأمام، لماذا في آخر الركب، من أجل أن ينظر للضعيف، للذي انقطعت به دابة، الذي سقط منه شيء، الذي يبحث عن شيء، فهو دائماً خلفهم لكي يحميهم ولكي يحفظ لهم حاجاتهم ويرى ما يحتاجون إليه وما ينتابهم، فكان ربما تقدّم أو تأخّر خوّات رضي الله عنه فيمر عليه فيقول :السلام عليك يا أبا عبدالله، ما فعل شراد جملك، قال: فلما فعل ذلك، – أي تكرر – تعجّلت إلى المدينة، لأنه كل فترة سيحصلني، قال: تعجّلت إلى المدينة واجتنبت المسجد والمجالسة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني مبقاش بيروح مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، عشان النبي صلى الله عليه وسلم لا يراه،،، مأساة كبيرة لا يعرف ماذا يصنع.
يقول: فلما طال ذلك – مدة مرّت وأنا نفسي أروح المسجد – قال: تحيّنت وقت خلوة في المسجد، ساعة ظهيرة هو نفسه يصلي في مسجد النبي ولكنه لا يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يراه، فهو ماذا سيصنع؟ فسيرى وقت ليس فيه أحد ويذهب ليصلي في المسجد، لكن كل بني آدم بيأخذ نصيبه، فهو ذهب يصلي، يقول: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجرته فجأة فصلى ركعتين خفيفتين، يقول: فطوّلت عسى أن يدعني فينصرف، جلست أصلي كتير عسى إن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويمشي وسوف يتركه ويذهب.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا عبدالله طوّل ما تشاء، طوّل ما تشاء أن تطوّل فوالله لا أزال قائماً حتى تنصرف. صلي زي ما أنت عاوز، فطبعاً كده خلاص.
قال: فلما سلّمت قال: ما فعل شراد جملك، قال: فاستحييت وسكت، ثم جعلت أتفرر منه، أصبح يهرب منه حتى في الشارع، يقول: فبينما أنا كذلك إذا لحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو على حمارٍ له فقال: يا أبا عبد الله ما فعل شراد جملك، يقول: فقلت في نفسي،والله لأكلّمنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبرئنّ صدره، فقلت :والذي بعثك بالحق، ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، أنا من ساعة ما ربنا منّ عليّ بالإسلام وأنا ماشي كويس، يعني المنظر الذي رأه النبي صلى الله عليه وسلم هذا، كان كده وخلاص، هو لم يكرره مرة أخرى.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال :الله أكبر الله أكبر اللهم اهدي أبا عبد الله، وفي رواية قال: رحمك الله رحمك الله رحمك الله، ثم ما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذكر شيءٍ من ذلك.
هنا كيف عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، عالجه بأيسر شيءٍ وأبسطه، هو لم يعرض له بكلام لم يتّهمه لم يذكره لكن فقط إلا أنه يذكّره دائماً – ايه الأخبار – بس.
فكان هذا الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحياء في قلب خوّات بن جبير كان هذا كافياً ومانعاً له من كل شرّ وسوء، وحينئذٍ أيضاً دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة وكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكراً لله تبارك وتعالى، ودعا له أن يهديه الله تبارك وتعالى
وإذاً فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المسلك وبهذه الطريقة يعالج القلوب وأدوائها، هكذا كانت حياة المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هكذا كانت صورة المجتمع الذي ارتضاه الله عز وجل للعالمين، ونحن بإذن الله تبارك وتعالى في مراتٍ متعاقبة سوف نعرّج في كل مرة على بعضٍ من هذه الصور، هدفنا وغايتنا أن نتصوّر كيف كانت هذه الحياة، كيف هي الصورة التي ارتضاها الله عز وجل لخلقه، كيف كانت الحياة الطيبة التي ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه فقال مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب علينا وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويحكم فيه بكتابك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين.
أقول قولي ها واستغفر الله لي ولكم.