إن الحمد لله نحمده ونستعينه ،ونستهديه، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد……
نتحدث اليوم عن معاهدة السلام تحدثنا قبل مراراً عن الحرب ، الحرب التي يشنها الشيطان وذريته وجنوده وأولياءه من شياطين الإنس والجن على عباد الله عز وجل المؤمنين لكي يصدوهم ولكي يصرفوهم عن دينهم وعن عبادة ربهم لكي يوردوهم موارد الهلكة.
واليوم نتحدث في مقابل الحرب : عن السلام ، قال الله عز وجل: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ ) ، وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَالَ (اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)
فمعاهدت السلام التي نتحدث عنها هو عهد العبد المؤمن مع السلام سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) فثمَّ عهدُ إذن بين أولي الألباب ؛ أهل البصيرة؛ عباد الله عز وجل المؤمنين وبين ربهم السلام سبحانه وتعالى ولذا قال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ)، وفي مقابل هؤلاء قال الله عز وجل : (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ).
فالله عز وجل هو السلام ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ؛ السلام هو: السالم من كل نقص ومن كل عيب ومن كل آفة سواء في ذاته تبارك وتعالى وجلاله وعظمته أو في صفاته أو في أفعاله أو في أحكامه ، فالله عز وجل ليس في صفاته نقص من وجه من الوجوه وكذلك ليس في أفعاله التي يقدرها والتي يقضيها سبحانه وتعالى نقصٌ أو عيبٌ بأي وجه من الوجوه،
وليس في أحكامه التي شرعها لعباده نقصٌ أو عيب بأي وجه من الوجوه (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
فالله عز وجل هو السالم في ذاته وصفاته وأفعاله من كل نقص وعيب ، وهو سبحانه وتعالى الذي يهب العباد السلام والسلامة والأمن في الدنيا وفي الآخرة.
ولذا قال تعالى : (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم) (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
فالله عز وجل سمى الجنة الدار التي أعدّها لعباده وأولياءه المتقين سمّاها دارالسلام لأنها سالمة من كل نقصٍ ومن كل عيبٍ ومن كل همٍّ ومن كل غمٍّ ومن كل ضيق ولذلك لما جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام قال: هذه خديجة قد أتت فأقرءها السلام من الله عز وجل ومني وبشّرها ببيت في الجنة من قصب (أي:من لؤلؤة مجوفة) لا صخب فيه ولا نصب هذا من جملة السلام ليس فيه نصب وليس فيه تعب مثلما يوجد في هذه الدار الدنيا ؛ دارالابتلاء ودارالعناء ودارالشقاء قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) في معاناةٍ وشقاءٍ في هذه الحياة الدنيا لا يصل إلى الراحة إلا عند أول قدم يضعها في الجنة.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) فهو كادح معانٍ في هذه الدنيا لا محالة ولكن المعيار أين يضع العبد كدحه فإذا وضع كدحه ومعاناته في طريق الحق كان من الناجين ، وإذا وضع كدحه ومعاناته في طريق الباطل كان من الهالكين لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل الناس يغدو فبائع نفسه ؛ فمعتقها أو موبقها ) كل إنسانٍ يغدو في هذه الحياة فيبيع نفسه فإما أن يبيعها لله فهو يعتقها وإما أن يبيعها للشيطان فهو يوبقها (أي:يهلكها)
(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) سُبل : أي طرق السلامة ؛ الطرق التي تقود الإنسان إلى السلامة في دار الدنيا وفي دار الآخرة (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) هاتان الآفتان من أخطر ومن أعظم الآفات التي يعاني منها العبد والتي يسعى كل السعي لكي يتجنبها ولكي يباعدها (الخوف والحُزن) ، فالإنسان دائماً أعظم ما يطلب من نعمة في هذه الدنيا الأمن والسعادة والهدوء والاستقرار ، وهذا ليس له سبيل وليس له طريق إلا في ملازمة جناب السلام سبحانه وتعالى (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ)
فإذن حقيقة السلام أن يلازم العبد جناب السلام سبحانه وتعالى ، هذا الجناب الذي يحقق الأمن والسعادة والهدوء والاستقرار والطمأنينة والسكينة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
لأنه يتوجه إلى وجهةٍ واحدةٍ لا مثنوية فيها ، ولذلك قال تبارك وتعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) والقلب السليم هو القلب السالم من الشرك ومن تعليق القلب بغير الله ومن تشتيته وتفريقه في أودية الدنيا وبين الآلهه المتنوعة المتصارعة.
ولذلك قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) فالله عز وجل ضرب مثلاً للعبد السالم ذي القلب السليم المتوجه للسلام سبحانه وتعالى وحده ، وضرب مثلاً مقابلاً للعبد الذي يعلق قلبه بأشياء وأشخاص كثيرة متنوعة متنازعة ؛ بمثل العبد المملوك الذي يملكه مجموعة من الشركاء لكل واحد منهم في عمله وفي سعيه وفي قلبه بعض الحظ والنصيب فهو يطالبه بحقه ويلزمه بأمره.
لكن هؤلاء الشركاء ليسوا فقط متعددون ولكنهم أيضاً متشاكسون هم أهوائهم وأغراضهم ومنافعهم ومصالحهم متعارضة متباينة متضاربة متضادة ، ولذلك يأمره هذا بالتوجه إلى هذه الوجة ويأمره الآخر بالتوجه إلى وجهه ثانية وثالث يأمره بالتوجه إلى وجهة ثالثة ؛ فيبقى متنازعاً متشتتاً متضارباً ممزق الأحشاء وممزق الوجدان لأنه لا يستطيع أن يرضي كل هذه الأهواء في لحظة واحدة ولذلك يبقى متنازعاً.
وفي مقابله ذكر الله العبد السالم ذو الوجهة الواحدة ؛ الذي يتوجه إلى معبود واحد إلى إله واحد، له منهاج واحد له طريق واحد له قدوة وإمام واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا رجل سلماً لرجل ؛ أي: سالم كله ، لأنه مرتبط بالسلام تبارك وتعالى.
فالسلام يحصر للعبد من توجهه إلى الله سبحانه وتعالى الذي يوحد وجهته ويوحد قصده ويوحد غايته وطريقه ومنهاجه.
فهذا الإله الواحد السلام سبحانه وتعالى هو القوي القاهر فوق عباده القادر على كل شيء الذي إذا أوى إليه العبد ،وإذا ركن إلى قوته اطمئنّ وسكن لأنه لاقوة فوق قوة الله ؛ ولا أحد أعظم من الله ولا أحد أعلى من الله فهو مطمئنٌ لركونه إلى هذا الركن الوثيق.
ولذلك لما قال لوط عليه السلام حينما أخذته الشدة وأخذته المحنة لما اجتمع قومه السفهاء على أضيافه من الملائكة وهم في صورة بشر يريدون أن يأخدوهم ليفعلوا بهم الفاحشة التي لعن الله أصحابها ولم يستطع لوط عليه السلام أن يدافع عن أضيافه قال كلمته التي سجلها الله تبارك وتعالى (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد.
لقد كان هو بالفعل لأنه يركن إلى جناب الله عز وجل يأوي إلى الركن الشديد.
ولذلك لما وقفوا بني اسرائيل على ساحل البحر وهم يترائون فرعون وجنوده وهم يدركونهم ويلحقون بهم فيستأصلون شأفتهم إذا أدركوهم (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) لم يكن موسى عليه السلام في هذه اللحظة يدري ما سوف يقدر وما سوف يصنع الله عز وجل معهم في هذه اللحظة العصيبة ، هم على ساحل البحر ليس معهم مركب، وخلفهم جيشٌ جرار يأتي لكي يستأصلهم وليس لهم قوة وليس معهم سلاح وليس لهم حيلة.
فقالوا بمقتضى الواقع وبمقتضى ما يرون وما يسمعون من صوت هذه الجحافل المقبلة قالوا (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) هذا هو التصور الواقعي الطبيعي ، فقال موسى عليه السلام: كلا ، ليس معهم حينئذٍ سبب مادي إلا الثقة والطمأنينة بجناب الله عز وجل ولقوة الله عز وجل التي هي فوق قوة كل عبد ؛ فقال (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).
(فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ) هكذا قضي الأمر ؛ فموسى عليه السلام كان يركن إلى هذه القوة وكان يطمئن لها وإن كان لا يعلم ماذا سيقدر الله عز وجل ولكنه على يقين وعلى ثقةٍ من حماية الله عز وجل ومن توفيقه.
وعلى يقينٍ بأن الخلق كل الخلق لا وزن لهم ولا قيمة في مقابل قوة الله عز وجل : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) ثم انتقل سبحانه وتعالى درجة أخرى في بيان شدة ضعف هؤلاء وقلة حيلتهم (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ليس فقط هم لا يستطيعون أن يخلقوا مثل هذا المخلوق الضعيف الذي هو الذباب ، بل إذا أخذ الذباب منهم شيئاً قطعة من فتات خبز، وأرادوا أن يأخذوها منه فإنهم لا يستطيعون ذلك (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)
ولذلك في قصة فرعون لما ذكر الله عز وجل أخذه له لم يزد سبحانه وتعالى عن هذه الكلمات (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) بهذه الكلمات البسيطة الموجزة السريعة أهلك فرعون بكل جنوده وبكل جبروته الذي كان يحتمي به ويأوي إليه قال تعالى (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) ففرعون تولى بركنه أي: بقوته التي يرتكن والتي يعتمد عليها.
فالله عز وجل ذكر إهلاكهم بهذه الكلمات (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) والنبذ؛ الكلمة تدل على إلقاء الشيء الذي لا يبالى ولا يعبأ به ، لا وزن له ولا قيمة في مقابل قوة الله عز وجل.
ولذلك قال الله عز وجل (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه آواهما مسيرهما إلى غار في جبل هذا الغار ينخفض بنسبة بسيطة قليلة ، ليس له عمق ، وانتهت رحلة البحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صاحبه إلى باب الغار حتى قال أبو بكر رضي الله عنه ( يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا) هم تبدو آثار أقدامهم هاهنا لأن الغار ليس عميقاً فإذا نظر أحدهم إلى أسفل سوف يرى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم أبي بكر ؛ هنا انقطعت الأسباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) هو رده فقط إلى معية الله عز وجل لهما ليس إلى شيء آخر (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فهو يطمئن إلى قوة الله عز وجل ويطمئن أيضاً إلى عدل الله عز وجل وإلى حكمته وأنه سبحانه وتعالى لا يقضي له إلا الخير ولا يقدر له إلا الخير سواءٌ رأه في ظاهر الحال خيراً أو لم يره.
قال الله عز وجل (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) الله عز وجل بيّن لنا هنا وقال في الآية الأخرى (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) هو يبدو لنا بظاهر الحال شر لكنه في علم الله عز وجل وفي حكمة الله عز وجل وفي تقديره هو الخير كل الخير، لكن الإنسان بنظره القاصر وعلمه المحدود لا يستطيع أن يحيط علماً بحكمة الله عز وجل؛ لكن الفارق بين الإنسان المؤمن وبين غير المؤمن أن المؤمن وإن رأى الواقع خلاف ما يظن فإنه ثقةً منه في ربه عز وجل وفي رحمته وفي حكمته هو يعلم أن الله عز وجل إنما يقدر وإنما يقضي له الخير وإن كان لا يرى الأمور بهذه الصورة في واقع الحياة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما يصيب العبد المؤمن من همٍ ولا حزنٍ ولا غمٍ ولا نصبٍ ولا وصبٍ ولا أذى حتى الشوكة يُشاكها إلا كَفَرَ الله عز وجل بها من خطاياه) فهذه الأمور الست هي قطعاً ألمٌ وضررٌ ونقصٌ وعناءٌ على الإنسان لكنها في حقيقتها تمحيصٌ له وتكفير لسيئاته ومحوٌ لخطيئاته ورفعٌ لدرجاته وتقريبٌ له من ربه عز وجل.
فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء الست لكنها في حق العبد المؤمن؛ والمؤمن فقط تكفيرٌ ومحوٌ.
أما في حق غير المؤمن فهي العقوبة المحضة الصرفة.
فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشياء؛ ذكر حزناً وذكر غماً وذكر هماً وذكر نصباً ووصباً وأذى هذه الأمور الست هي كل ما يصيب الإنسان من ضررٍ أو من شرٍ في هذه الحياة الدنيا.
فالحَزن ، أو الحُزن :هو ضيق الإنسان وحزن قلبه على أمر قد مضى وقد فات وولى فهو يحزن عليه إذا تذكره.
والغم: هو معاناة الإنسان وضيقه الداخلي لأمر يعايشه ويلابسه من ضيق أو من دين أو من شدة تؤثر على قلبه وتحزنه فهذا هو الغم.
والهم: هو حزن الإنسان لأمر من أمور السوء الذي يتوقع أن تنزل به في مستقبل أيامه ؛ ثم أضاف إليها رسول الله-صلى الله عليه وسلم- نصباً أي: تعباً يعانيه الإنسان في هذه الحياة ومشاقها.
وذكر وصباً أي: مرضاً يبتلى في بدنه ثم ذكر الأذى وهو كل ما يعرض له من ضرر بفعل الآخرين (حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عز وجل بها من خطاياه)
ولذلك قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- (ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يتركه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئه)
فهذا بقاصر النظر إنما يبدو شراً وضرراً ولكنه ثقةً من العبد في رحمة الله عز وجل فهو يظن بربه الخير ويثق أن الله عز وجل لا يقدر له إلا الخير ثم هو يطمئن أيضاً لثقته برحمة الله عز وجل وعفوه وصفحه ومغفرته وأن الله عز وجل يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
إذن فالنجاة والسلامة من الحرب التي يعاني منها العبد في هذه الدنيا إنما هي ببساطة ويسر في هذه الكلمات البسيطة : في أن يحقق العبد لنفسه السلامة بأن يرتكن وأن يلجأ وأن يأوي إلى السلام تبارك وتعالى ثقةً منه بالله واعتماداً منه على الله ويقيناً منه بأن الله عز وجل سوف يحقق له مطلوبه ومرغوبه وسوف يدفع عنه كل شر وكل مكروه يراد له أن يناله به أعدائه.
وليس بين العباد وبين تحقيق هذه الغاية وبين نيل السلام إلا اللياذ والعياذ والاعتصام بالله تبارك وتعالى ولذلك علمنا الله عز وجل أن نقول هذه الآيات (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِمَلِكِ النَّاسِإِلَهِ النَّاسِمِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِالَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِمِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) يعوذ الإنسان أي يعتصم ويلتجأ ويحتمي بجناب الله عز وجل القادر على أن يقيه من شر شياطين الإنس والجن، فهو يعوذ بالله عز وجل رب الناس: خالقهم ومالكهم سبحانه وتعالى ، مالك الناس: المتصرف فيهم بما يشاء تبارك وتعالى ، إله الناس: مفزع الناس وملجأهم وإلههم الذي إليه يفزعون وإليه يلجأون وبه يستغيثون، قال الله تبارك وتعالى (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) ولذا قال تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)
ورغم كل هذا فإن كثيراً من عباد الله لا يلجأون إلى هذا الركن الوثيق ولا يحتمون لهذا الحمى العظيم رغم أنه بين أيديهم ومتاحٌ لهم ليس بينهم وبين أن يحققوه وبين أن يأووا إليه إلا أن يلجأوا إلى الله ، إلا أن يدعوا ربهم ، إلا أن يعتصموا به تبارك وتعالى ،
وإنما الحامل لهم على هذا أمور نذكر أسمائها أو نذكر أصولها ثم نعرض لها إن شاء الله عز وجل في مرة قادمة.
أول هذه الأمور وثاني هذه الأمور كذلك يجمعهما أمر واحد هو أن الإنسان لا يتصور الأمور على حقيقة ما هي عليه ،
يعني نحن ذكرنا أن الله عز وجل هو السلام وذكرنا من أسمائه ومن أوصافه ما هو مستقر لدينا جميعاً وما نوقن ونؤمن به جميعاً لكن هذه الحقائق تغيب عنا في غفلات الزمان، وفي وسوسات وتسويلات الشيطان؛ فننصرف عن هذا الجناب إلى حيث نكون محلاً لغواية الشيطان ومحلاً لحربه الضروس،
فمشكلتنا هي مشكلة واحدة أننا نتصور الأمور بخلاف ما هي عليه نفكر أحياناً بتفكير الشيطان، نفكر أحياناً في ظل وسوسة وتسويل الشيطان فننظر أو نظن بربنا عز وجل مالا ينبغي أن يظن به من الظنون ونحسن الظن بالشيطان وتسويلاته، فنتصور الأمور بخلاف حقيقتها فنبعد عن جناب السلام عز وجل الذي ينبغي أن نأوي إليه ونصغي أحياناً إلى هذه الوساوس الشيطانية ، لذلك حذرنا الله عز وجل فقال (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)
وأول هذه الأمور التي ربما تصد كثيراً من الناس على اللجوء إلى هذا الركن الوثيق الذي فيه الحماية وفيه الأمن وفيه السعادة وفيه الطمأنينة أنه يتصور أن الدين أو أن أحكام الله عز وجل أو أن القرب من الله عز وجل سوف يسبب له شقاءاً وتعاسة وكبتاً وهماً وغماً ، فهو تصوير للأمور بالحقيقة على خلاف بل على ضد ما هي عليه كما ذكرنا قبل في مرة ماضية كيف دخل الشيطان إلى قلب آدم عليه السلام ليوسوس له بأن صور له شجر المعصية والندامة على أنها شجر العز والكرامة (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) وهذا لا يكون إلا بأن الإنسان لا يظن بالله عز وجل الظن الحسن ولا يظن بأحكامه ولا بحكمته الظن الحسن.
الأمر الآخر أن الإنسان ربما إذا غرق في بعض المعاصي أو غلبته بعض الذنوب والأوزار رأى نفسه لا يصلح للقرب من هذا المقام العالي ومن القرب من هذا الجناب السامي؛ جناب السلام عز وجل وأنه لغلبة المعصية عليه ليس له حقٌ أو ليس له أملٌ في أن يأوي هذا الركن الوثيق وهذا أيضاً من تسويل الشيطان وتزينه وتزيف للحقائق بأن يصور للإنسان أموره بخلاف ذلك عليه.
هذان الأمران هما من أعظم الأمور اللذان يصدان كثيراً من الناس عن اللجوء إلى هذا الجناب العظيم.
الأول: جانب القلق من عودة الإنسان إلى الله؛ احساسه أنه إذا عاد إلى الله واقترب منه أنه سوف تضيق عليه الأمور وسوف تتعسر عليه حياته وربما يفقد كثيراً من الأمور التي يحبها والتي يلتذ بها وأنه ربما تتضيق عليه حتى حياته الدنيوية وسوف تصبح حياته مجموعة من المحرمات
والثاني: أنه يرى نفسه ليس أهلاً أو ليس صالحاً بأن يقترب من هذا الجناب العظيم.
هذان الأمران إنما هما في الحقيقة من تسويل الشيطان وتزيينه ليصد العبد عن ربه تبارك وتعالى.
فسوف نعرض إن شاء الله عز وجل وقدر لهذين الأمرين بشيء من التفصيل لكي نحاول أن نجلي حقائق الأمور لكي نعود إلى حقيقة التصورات وحقيقة الروءا الصحيحة ، نستقي فهمانا ورؤيتنا من المنهاج الذي أنزله الله عز وجل ، ولنحذر كل الحذر ونتجنب كل التجنب أن يدخل الشيطان إلى عقولنا فيصور لنا الأمور بخلاف ما هي عليه كما صورها لأبينا آدم عليه السلام حتى أوقعه في المعصية واستزله إلى فعل يستوجب الشقاء والعنت والبعد عن طاعة الله عز وجل لولا أن تداركه الله عز وجل برحمته ومنه وفضله (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)