إن الحمد لله نحمده ونستعينه ،ونستهديه، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد……
مازلنا مع حديث الحصون الأربعة ذكرنا في المرة الماضية حصونا أربعة وأحراز لدين الإسلام صرح أعداؤنا –أعداء ديننا- بأنهم لن يتمكنوا منا إلا بالقضاء وهدم هذه الحصون الأربعة فذكروا “كتاب الله” عز وجل الذي هو المنهاج والنبراس والهداية لهذه الأمة وذكروا “بيت الله” عز وجل الذي هو القبلة الواحدة رمز اجتماع ووحدة أهل الإسلام وذكروا “الأزهر” الذي يمثل العلم والعلماء الذين هم المفزع للأمة عند الشدائد والذين ينبغي أن يكونوا هم قادة الأمة الحقيقين الذين يلتف حولهم الناس والذين يوسونهم ويقودنهم إلى رضوان الله عز وجل بما أتاهم الله من العلم ومن الكتاب ومن الحكمة وذكروا رابعا “منبر الجمعة” وهو الذي نريد أن نتحدث عنه اليوم بكلمة نذكر فيها أمورا أول هذه الأمور أن ندرك عظمة هذا الشرع الذي امتن الله عز وجل علينا به، وأن ندرك عظيم حكمة الله عز وجل في أحكامه وفي تشريعاته.
فالله عز وجل أمرنا بأن نسعى إلى هذه الصلاة وأمرنا سبحانه وتعالى وحثنا على عديد من الأمور وعديد من المقدمات علينا أن نحصلها وأن نحققها قبل وأثناء إتياننا أو شهودنا لهذه العبادة العظيمة.
فقال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
فالله عز وجل أوجب علينا إذا سمعنا هذا النداء من يوم الجمعة أن نسعى إلى الذكر، فالله عز وجل أمرنا هنا بالسعي، والسعي ليس المقصود به هاهنا السعي على الأقدام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن أن نسعى سعيا بأقدامنا بل أمرنا أن نأتي إلى الصلاة وعلينا السكينة والوقار.
فالسعي المأمور به هنا ليس سعيا ظاهريا وإنما هو السعي الباطني يسعى الإنسان إلى ذكر الله بقلبه حريصا على هذه العبادة متشوفا لها مستشرفا لفضل الله عز وجل الذي سوف يمن عليه به إذا شهدها وإذا حضرها.
(فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ( فالمقصود من هذه العبادة أن يكون العبد ذاكراً لله ، أن يتحقق أو أن يخرج من هذه العبادة بنتيجة ومحصلة أن يكون ذاكراً ومعظماً لله عز وجل ، ولذا أمرنا الله عز وجل لكي يتم ذلك أن نترك الدنيا في هذه اللحظات ورائنا ظهريا.
(وَذَرُوا الْبَيْعَ) فيترك الإنسان كل الشواغل الدنيوية وراءه ويأتي هنا لكي يحقق هذا المقصد وهذه الغاية التي هي ذكر الله عز وجل.
فالله عز وجل إذا أمر بأمر وإذا شرع شرعاً إنما يتوخى منه سبحانه وتعالى حكمةً بالغة ، فنحن يجب أن ننتقل من الظواهر والأشكال من واجبات وسنن إلى مقاصد وغايات وحكم، الله عز وجل إنما يشرع ذلك لحكمة فإذا حققنا ظاهر الأمر دون حكمته فنحن لم ننتفع منه بشيء ولم نحقق مراد الله عز وجل.
فهاهنا الله عز وجل أمرنا بسعي قلبي إلى ذكرٍ وحضور قلب ونهانا عن الشواغل ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه سلمان الفارسي رضي الله عنه ، أنه قال: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهرٍ ويدهن من دهن أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام ؛إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخر).
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أموراً هي من أمور التهيئة والإعداد الذي يعد العبد بها نفسه لكي ينتفع من هذه العبادة.
فذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث تطهير الإنسان لبدنه وتطيبه الذي يؤدي إلى شعوره بالخفه وترك الأثقال فينشط لهذه العبادة ثم يخرج وعليه سكينة ووقار فإذا أتى المسجد لم يؤذي أحد ولم يفرق بين إثنين ثم يشرع في عبادة الصلاة التي تهيئه لهذه العبادة كمقدمة لها ثم يصغي وينصت إذا تكلم الإمام لكي ينتفع ويستفيد من هذه الكلمات التي تلقى إليه وهذا هو المقصود.
فمن حقق هذا بهذه الصورة ، وبهذه الصفة كان موعوداً بهذا الفضل العظيم أن يغفر له ذنبه فيما بين هذه الجمعة وبين الجمعة التي تليها.
فإذن ، كل هذه المقدمات إنما شرعت لأجل تحصيل الغاية وتحصيل المقصود. فالإنسان عليه ألا يسهر كثيراً لكي يكون حاضر الذهن ، عليه أن يعتدل في طعامه قبل أن يأتي إلى الجمعة ، ولذلك نهي عن الصيام في يوم الجمعة لأنه عيد أولاً، ولئلا يكون الإنسان مشغولاً في حال الجوع يريد أن ينتهي من الصلاة سريعاً لكي يطعم ويشرب وفي نفس الوقت لا يسرف ولا يكثر من الطعام لكي لا يثقل بدنه فلا يستطيع أن يصغي أو أن ينتفع أو يستفيد من هذه الكلمات التي تلقى إليه.
ولذلك أيضاً قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث أوس بن أوس: (من غسل واغتسل وبكر وابتكر) هنا ذكر غسلاً وذكر بكوراً وابتكاراً؛ البكور: الإسراع، والابتكار: أن يحصل الإنسان على باكورة الشيء أي يكون من أول من يحضر إلى الجمعة.
(ودنا من الإمام فانصت واستمع ولم يلغو ،كان له بكل خطوة يخطوها عمل سنة أجر صيامها وقيامها) هذا الثواب والأجر العظيم إنما يترتب على هذه المقدمات فذكر منها زيادة على ما قلناه قبل الدنو والقرب من الإمام لئلا يحصل عليه تشويش والاصغاء والانصات وألا يلغو، واللغو: هو العبث.
فإذن ؛كل هذه المقدمات التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت مقدمات لغاية لابد من تحصيلها وهذا المعنى الذي التفت إليه هؤلاء الأعداء وهو معنى تأثير هذه الخطبة ، وتأثير شهود يوم الجمعة على المأمومين وعلى المصلين.
فجعلت هذه الخطبة جزء من صميم العبادة، كثير من الناس يتصور أن صلاة الجمعة هي ركعتان صلاة الجمعة هي خطبتان وركعتان ولذلك أمرنا وأوجب علينا إذا سمعنا النداء الأول الذي هو الأذان أن ناتي إلى المسجد ولو كان الوجوب متعلقاً بالصلاة فقط ، لكان الوجوب يتعلق بالنداء الثاني الذي هو إقامة الصلاة.
فحضور الخطبة واجب و هو جزء من أجزاء الجمعة بل الله سبحانه وتعالى جعل هذا هو الغاية وهو السعي إلى ذكر الله عز وجل.
ولذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من التهاون في هذه العبادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول على أعاود منبره : ” لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ – أي تركهم – الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ ” فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر أشد التحذير من ترك هذه العبادة وذكر وعيداً شديداً في حق من يتخلف عنها بغير عذر عامداً متعمداً أن يطبع وأن يختم الله – عز وجل – عياذاً بالله – على قلبه فيكون بعد ذلك من الغافلين من الذين قال الله – عز وجل – فيهم : ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ “
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه الإمام أحمد عن أبي جعدة الضمري رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى قَلْبِهِ “
وقال ابن عباس فيما رواه أبو يعلى الموصلي قال : ” من ترك الجمعة ثلاث جمعات متتاليات قد نبذ الإسلام وراء ظهره ” جعل دينه وراءه ظهرياً , كل هذا إنما هو لعظيم أمر هذه العبادة وتحقيق مقصودها وهو انتفاع الإنسان بها وائتماره بأمر الله وانزجاره عما نهى الله عنه
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال ” يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةٌ نفر – أصناف الناس الذين يحضرون إلى هذه العبادة ثلاث أصناف – فَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو ” واللغو معناه العبث أي هو لا يقصد مقصوداً من وراء هذه العبادة لا يريد أن يحقق غاية من وارءها وإنما يحضر هكذا بدون هدف وبدون قصد وبدون نية ولذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” فَذَاكَ حَظُّهُ مِنْهَا ” هو لا يستفيد ولا ينتفع منها في شئ يضيع على نفسه الفضل والأجر والانتفاع بهذه الشعيرة وهذه العبادة العظيمة ” وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ ” هو أتى إلى العبادة لكي يدعو الله – عز وجل – ويطلب منه أشياء يريد أن يحققها الله – عز وجل – له ” فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا “
فالنبي صلى الله عليه وسلم قسم أحوال الناس إزاء هذه العبادة إلى ثلاثة أصناف من الناس ؛ رجل لا يعي لها غاية ولا هدفاً فهو لا يأتي ليحقق غاية ولا مقصوداً فهذا لا يحصل منها شيئاً ,وآخر أتى لكي يدعو الله – عز وجل – ولكي يطلب منه سبحانه وتعالى أن يحقق أشياء فهذا تحت مشيئة الله إن شاء الله – عز وجل – أعطاه سؤله وإن شاء منعه إياه لأنه لم يوافق مقصود الرب سبحانه وتعالى من هذه العبادة , فنحن إنما نؤد شعائر العبادة لله – عز وجل – لكي نحقق الغاية والحكمة والمراد الإلهي منها.
فنحن إذا كان مرادنا من العبادة أو مقصودنا منها غير المراد المقصود وغير الغاية المنشودة التي شرع الله – عز وجل – هذه العبادة لأجلها فهذا شئ مغاير ومخالف لمراد الله – عز وجل – أما الذي كانت له كفارة ونفعاً وفائدة فهو الذي يحضر بالإنصات والإخبات ولا يؤذي أحداً من المسلمين وهذا هو الذي له الأجر والثواب على هذه العبادة ,
وإذاً فهؤلاء الأعداء الذين وعوا والذين أدركوا خطر هذه العبادة ربما كانوا للأسف أكثر إدراكاً لمواطن القوة في ديننا وبمواطن التأثير في شرعنا ولحكم وغايات إلهنا ومليكنا وربنا – عز وجل – من كثير من المسلمين.
ولذلك قلنا قبل ونكرر ذلك كثيراً في قضية الوعي والفهم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” من يرد الله به خير يفقهه في الدين ” يفهم حقيقة الدين وحقيقة مراد الله – عز وجل – ومقصوده من وراء أحكامه وتشريعاته فالله – عز وجل – حكيم عليم
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يدعو لعبد الله بن عباس قال: ” اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ” فيفقه ويفهم الدين ويتعلم التأويل أي يدرك تفسير ومعاني كلام الله عز وجل.
سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما روى البخاري عن أبي هريرة ” قيل يا رسول الله مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ : ” أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ ” قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ : ” فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ” قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ : ” فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا ” .
فأفضل الناس أخلاقا وسلوكا وفطرة قبل أن يهديه الله للإسلام هم هم كذلك أفضل الناس أخلاقا وسلوكا وفطرة حينما يمن الله عز وجل عليهم بمنة الإيمان بشرط واحد إذا فقهوا .. أي فهموا حقيقة الدين إذا فهموا حقيقة مراد الله عز وجل ..إذا أدركوا الغايات والحكم من وراء شرع الله عز وجل فامتثلوها وعملوا بها فهؤلاء هم خيار الناس.
وإذا فالغاية المقصودة من هذه العبادة هي أن يقترب العبد كل يوم من الله عز وجل أن يدرك وأن يعي حقيقة الدين وأن يزداد قربا وسعيا لنيل رضا الله عز وجل.
الإنسان في حياته خاصة في هذه الأيام يبقى طول أسبوعه مكبودا مشغولا مرهقا مضغوطا في مشاكل هذه الحياة وفي ضغوطها سواء إن كانت الذهنية أو البدنية أو النفسية فهو يحتاج في كل أسبوع إلى زاد من الإيمان وإلى تذكير بلله عز وجل وإلى تجديد معان إيمانية في قلبه وأن يتذكر غاية وجوده وأن يعيد تطهير وغسل نفسه ووجدانه لكي يتجدد إيمانه على الأوقات ولا يبلى إيمانه ولا يبهت دينه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق -أي يبلى- في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)
فإذا لابد أن يأتي الإنسان إلى المسجد بهذا القصد وبهذه الغاية وبهذه النية ويسعى إلى تجديد الإيمان، يسعى أن يقترب أكثر وأكثر من رضوان الله عز وجل.
المنبر أصل هذه الكلمة من العلو والارتفاع ..يقال نبرت الشيء إذا رفعته ..سمي كذلك لأن هذا المنبر يجتمع حوله الناس فيحتاجوا صاحبه إلى أن يعلو على الناس لكي يسمعوا صوته ..ويقال أيضا ..تطلق هذه الكلمة ..كلمة النبر والارتفاع على الكلمة العالية فهذا الشخص الذي يقوم على المنبر إنما يتكلم بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو أرقى الكلام وأعلاه ..ويقال أيضا رجل نبار إذا كان فصيح الكلام بليغه ..لأنه يتكلم بأفصح الكلام وهو كلام رب العالمين سبحانه وتعالى ..ويقال نبر الطفل ..أو نبر الغلام إذا ترعرع لأن الإنسان الحاضر للخطبة سواء كان متكلما أو مستمعا ..يترعرع ويكبر وينمو على هذه الكلمات ..يكبر وينمو إيمانه وعلمه وفهمه ووعيه يوما بعد يوم.. ولذلك جعلها الله عز وجل زادا أسبوعيا ..الإنسان في أثناء السنة .. السنة الواحدة.. يستمع إلى 52 خطبة..
ولو قلنا نصف ساعة تقريبا ..فهذا مقدار كبير من الكلمات على مدى السنين .. العشر سنين العشرين سنة الثلاثين سنة.. المفروض الإنسان إذا ارتقى كل يوم خطوة فلابد أنه يوم عن يوم يرتقي علما وفهما ودينا وخلقا ويزداد يوما بعد يوم في قربه من الله ..
فالقضية الأساس ..نحن نريد أن ندرك الحكمة ..أن ندرك الغاية .. أن ندرك ما أدركه أعداؤنا من مواطن القوى في ديننا ونستفيد وننتفع بذلك ..هذا أمر مشترك لابد كما قلنا في الخطبة الماضية ..الدين مسئولية مشتركة يشترك فيه المتكلم والمستمع كليهما.
المستمع لابد أن يستشعر معنى هذه العبادة معنى هذه الشعيرة ..الغاية من وراء إتيانه .. أن يستشعر عظمة هذه العبادة لله سبحانه وتعالى ..أن يعمل ذهنه في ما يسمعه ..يحاول أن ينتفع يحاول أن يستفيد ..ينقل هذا بعد الخطبة إلى غيره .
وسائل الإعلام المرئية والمسموعة إنما تنتشر ليس فقط بقوة من يشاهدونها ..بل قوة من ينقل إليه هذا الكلام ..شخص شاهد برنامج فنقله أو تناقله في بيته مع أصدقائه في عمله ..فينتشر هذا على قطاع أوسع .. إذا كانت هذه الكلمات التي ينتفع بها الإنسان في خطبة الجمعة نقلها بنفس الطريقة ليس أكثر بنفس الطريقة ، في بيته ومع أصدقائه ، في منتدياته وفي أماكن عمله سوف تنتشر معاني الدين وتستقر في نفوس الناس ، هذه كما قلنا مسئولية مشتركة.
ربما أحيانا نحن نلق مسؤولية هذا على الخطيب كأن الخطبة هي مسؤولية المتكلم فقط بل هي مسؤولية مشتركة، الخطيب في النهاية رجل من أفراد هذا المجتمع يتأثر بنفس الثقافة وبنفس المتغيرات بنفس طبيعة البيئة وبنفس الآفات النفسية.
نحن نتصور أن الخطيب هذا شخص جاء من كوكب المريخ فنزل على المنبر فيتكلم بكلام هو في مستوى أو في حالة أو وضع غير أحوال الناس، هو يفترض أن يكون كذلك بمقدار من التمايز لكن في النهاية هو فرد من المجموع في نفس المشاكل ونفس الآفات يعاني منها.
فهي ليست مسؤولية شخصية للإمام وحده، فلو افترضنا في الخطيب شئ من النقص أو القصور فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) فلابد أن نسعى لجبران هذا النقص باقتراح موضوع أو بنصح ومراجعة شبهة أو مدارسة أمر مع الخطيب، هذا التواصل وهذا الاجتماع هو الذي سوف يحقق مقصود هذه العبادات.
قال الخليل بن أحمد: (الناس أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوع) شخص فاهم عنده ادراك ووعي ويعلم من نفسه ذلك فهذا عالم فاتبعوه.
(ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهو نائم فأيقظوه) فهو عنده علم ولكنه يخشى التكلم فيجب ايقاظه ليقوم بواجبه.
(ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه).
(ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك أحمق فأمبذوه).
وقال آخر الخطباء أربعة فواحد يخوضوا وسط المعمعة أي رجل عند علم فهو يخوض في كبار القضايا ويستطيع أن يبث في الناس علما وفهما.
وآخر يجري ولا تجري معه فهو رجل جيد التحضير لكن المستمع لا يستطيع التواصل معه أو فهمه.
وثالث لا تشتهي أن تسمعه فهو سئ التحضير ولا يوصل للمستمع ما ينتفع به ويكرر الخطب تبعا للمواسم.
ورابع لا تستحي أن تصفعه.
فالجميع يجب أن يدرك أنه مسؤول عن المسجد والخطبة بل مسؤول عن الدين بأكمله وكل إنسان يستطيع أن ينفع بشئ يجب عليه القيام به.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)
وفي النهاية يكفي أن يؤجر العبد ويثاب على قصده ونيته وعلى سعيه في إقامة دينه فنحن نريد أن نتعلم من أعدائنا مواطن قوة ديننا فنسعى لتدعيمها فعلا لكي نحقق غايات شريعتنا ونحقق مراد الله عز وجل.