إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ،
ثم أما بعد،
قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
فالله سبحانه وتعالى في هذه الآيات يبين لنا صفة ويرسم لنا صورة للشخص الذي لا يؤمن بيوم الحساب الذي لا يؤمن بلقاء الله عز وجل ليس هذا الشخص الذي يحدثنا الله عز وجل عنه هو شخص ممن يجاهر بكفره وشركه وإلا لو كان كذلك لما كان الناس في حاجة إلى تبيان صفاته العملية وسلوكه الفعلي لأنه لو كان مجاهراً بشركه بالله وجحوده وإنكاره ليوم البعث كما كان المشركون لما كان الناس محتاجون إلى هذه الصفة في قول الله عز وجل أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ هل تعرفه؟ هل تستطيع أن تميز صفاته إذا رأيته وإذا لقيته؟ فيصف الله عز وجل العبد الذي يؤمن أو يظهر إيماناً لسانياً بيوم الحساب لكنه في حقيقة حاله وفي دخيلة قلبه في شك وفي ريب منه، قال: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ يشك ويشكك في يوم الدين، يوم الجزاء الذي يقف العباد فيه بين يدي ربهم تبارك وتعالى فيسائل كلاً عن عمله هل تعرف هذا الشخص؟ إذا لم تكن تعرف هذا الشخص وكيف تميزه فسوف يعطيك الله عز وجل من صفاته قال: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ أول صفة ذكرها الله عز وجل لهذا الذي في حقيقته لا يؤمن بيوم الحساب، أنه يدع اليتيم أي يدفعه دفعاً شديداً.
فإذاً أول صفة لهذا الشخص أنه خلوُ من الرحمة ومن الرقة ومن الحنان، فهو لا يكتفي بأنه لا يحسن إلى هذا اليتيم الذي تميل النفوس بطبيعتها إليه لصغر سنه وضعف حاله وعدم وجود من يعينه ومن يقوم بأمره تميل النفوس بفطرتها إلى أن تحن على هذا اليتيم، وإن لم تحسن إليه بالمال فلا أقل من أن ترق له هذه القلوب، لكن هذا العبد الموصوف في كتاب الله عز وجل، هذا يدع اليتيم ويدفعه دفعاً شديداً، فالله سبحانه وتعالى يصف هذا العبد أن قلبه يخلو من الرحمة ومن الرقة ومن الحنان ومن الود ومن الرفق ومن الإحساس بمعانة اليتيم والضعيف والمسكين، قلب فظ غليظ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ لا يحث من حوله ممن يعرفهم على أن يحسنوا إلى هؤلاء الفقراء والضعفة والمساكين، وهو سبحانه وتعالى هاهنا لما ذكر اليتيم لم يذكر مجرد البر والإحسان وإنما ذكر المعاملة الدالة على الشفقة والرحمة، ولما ذكر المسكين لم يذكر الإطعام وإنما ذكر الحض لأن الحض والحث إنما ينبعث من قلب يستشعر حاجة هؤلاء يستشعر الرقة لحال هؤلاء فلا يكتفي بأن يخرج شيئاً مما في يده لكنه يرى هذا ليس كافياً لأن حاجات هؤلاء الناس لازالت قائمة لم تنقطع ولم تسد فاقتهم وحاجاتهم فهو لا يكتفي بأن يخرج مما آتاه الله عز وجل بل يحث كل من حوله على سد هذه الحاجات وعلى دفع هذه الفاقات فهو سبحانه وتعالى يتكلم عن إحساس وعن رقة وعن رحمة تنطوي عليها هذه القلوب تدفع إلى بر وإلى إحسان وإلى مد يد العون.
ثم يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ إذاً فهم يصلون، فهو سبحانه وتعالى يتكلم عن قوم يدعون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين وهم مع ذلك يصلون ولذلك استحقوا من ربهم عز وجل هذا الوعيد الشديد قال الله تعالى فَوَيْلٌ لهؤلاء الذين مع أنهم يصلون فإنهم يدعون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين قال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ هم غافلون عن حقيقة هذه الصلاة يصلون بظواهرهم لا يصلون ببواطنهم وقلوبهم، هم قائمون وسط الناس يركعون ويسجدون ويقرأون لكنهم لا يعوون ولا يحسون ولا يستشعرون فهذه الصلاة هي التي سترقق هذه القلوب هي التي تورث هؤلاء الناس الشعور بالشفقة والرحمة والبر والإحسان فهؤلاء في غفلة وفي سهوٍ عن الصلاة وعن حقيقتها ولذلك لم يقل الله تعالى الذين هم في صلاتهم ساهون ولو قال ذلك هلكنا جميعاً لأنه لا يخلو عبد من أن يسهو في صلاته لا يخلو عبد من أن يأتيه الشيطان فيخبط عليه صلاته ويشوش عليه فكره ويفسد عليه خشوعه لكن هؤلاء يقفون بأبدان لا تحوي قلوباً.
ولذلك قال الله تبارك وتعالى معقباً: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ إنما حاملهم الأساس أن يراهم الناس يصلون، فهم يراءون وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ والماعون ذكر العلماء في تفسيره أقوالاً قيل هو النفع اليسير وقيل هو كل أنواع المعونة التي يقدمها الإنسان لغيره من الناس فلا تحملهم هذه الصلاة على أن يكونوا في عون الناس ولا في مصلحتهم ولا في خدمتهم فإذاً ربنا تبارك وتعالى جعل لنا علامة الإيمان بيوم الحساب علامة التذكر لعظمة الله ولقائه الشفقة والرحمة والبر والإحسان وجعل سبحانه وتعالى أيضاً علامة إقام الصلاة هي ما تحدثه هذه الصلاة من أثر في قلب العبد.
إذاً فإن حقيقة الإيمان التي يريد الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا إياها ليست هي مجرد أداء مجموعة من الشعائر أو القيام بظواهر لبعض الأعمال وإنما هي حقيقة باطنة في قلب العبد حقيقة الإيمان بالله حقيقة الإيمان بلقاء الله هي حقيقة ومعنى باطن في قلب العبد يظهر أثره مباشرة في رقته ورحمته وبره وإحسانه هذا هو الإيمان وهذا هو مراد الله عز وجل من العبد ولذلك جعل الله لنا هذا علامة نقيس بها حالنا وأيضاً ندرك بها حقيقة العالم وحقيقة الناس من حولنا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه: ” المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ” لا يظلمه لا ( يغصبه ) حقاً من حقوقه فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ لا يظلمه ولا يتركه نهباً للظلمة يظلموه، لا يظلمه ولا يسلمه، لا يسلمه لمن يظلمه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ” ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ” وعبر صلى الله عليه وسلم بـ( في ) الدالة على الانشغال والانغماس فهو مشغول مهموم بحاجات الناس يسعى فيها بجهده وكده فمن كان كذلك فإن الله عز وجل في عليائه هو الذي يقوم بحاجته فالعبد إذا كان في حاجات العباد كان الله تبارك وتعالى بذاته وعظمته وقدرته هو القائم في هذا العبد في حاجته فلابد لكل حاجته من أن تقضى العبد إذا كان في حاجات الناس فهو محدود الطاقة والقدرة والإمكانية ربما تمكن من قضائها وربما لم يتمكن أما من كان الله عز وجل في حاجته فلابد لحاجته أن تقضى لأن الله عز وجل لا يعز عليه أمر ولا يصعب عليه شئ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ” ومن كان في حاجة أخيه كان في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها ” بهذه الكربة جزاءاً له بهذا التفريج ” فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ” ولا سواء، ليس كرب الدنيا على ما بلغت من الشدة والعسر والصعوبة تزن عشر معشار كرب من كروب الآخرة نسأل الله عز وجل أن يعافينا من كروبها ” من فرج عن مسلم كربة ” ولو كانت صغيرة ” فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة “.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم،
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ” يقول صلى الله عليه وسلم ” مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ” والتنفيس يدل على أن الكرب تأخذ بأنفاس العباد، لأن هذه الشدائد تضيق بها الصدور وتختلق بها النفوس حتى لا يستطيع العبد أن يتنفس ولذلك سمى تفريج الكربات صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة سماه تنفيساً يعطي هذا العبد الذي فرجت عنه الكربة فرصة أن يتنفس أن يسترد أنفاسه وأن يلتقطها، وقالوا في تفسير ذلك في كلام بعض أهل العلم أن التنفيس غير التفريج الوارد في حديث ابن عمر رضي الله عنه الآنف ذكره أن التفريج هو إزالة الكربة وأما التنفيس أن تعطيه فيها نفساً أي تحاول أن تقلل من أثرها أو تقلل من شدتها أو تقلل من وقعها على العبد، فربما لا أستطيع بجهدي أو بطاقتي أن أزيل عنه كربته أن أقضي عنه دينه كله أن أفرج عنه كربته كلها فلا أقل من أحاول أن أعطيه فيها نفساً أحاول أن أخفف عليه من شدة أو من وقع هذه الكربة أو أزيل عن كاهله شيئاً من أثقالها فمن فعل نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ” وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ ” بإنظاره أو بإعانته ” يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ” فلما ذكر صلى الله عليه وسلم التنفيس ذكر الكربات في الآخرة لكنه لما ذكر التيسير ذكر جزاءاً دنيوياً قبل الجزاء الأخروي فجزاء التيسير يسر وتيسير في الأولى والآخرة، ” وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ” كذلك لما ذكر الستر ذكره بما ذكر به اليسر والتيسير ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي برزة الأسلمي عند أبي داود قال: ” يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ ” هو مستتر عن أعين الناس لم يره أحد لكن الله عز وجل جزاءاً له على تتبعه عورات العباد يفضحه ولو بلغ في تستره وفي استتاره عن أعين العباد بالغاً مأمنه، فلابد أن يجازيه الله عز وجل على هتكه للأستار بهتك ستره ولو كان مستتراً بجوف بيته ” وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ ” دوماً ما بقي ” الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ” ثم ذكر صلى الله عليه وسلم علماً ويكأنه صلى الله عليه وسلم يشير إلى أن طريق العلم وإلى أن طريق المعرفة هو الذي يورث هذه الشفقة وهذه الرحمة وهذا الحرص على البر والإحسان ” وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ ” يطلب ” فِيهِ عِلْمًا ” ينير له سبيله ويقربه إلى ربه تبارك وتعالى من فعل ذلك جزاه الله عز وجل به أن يسهل له طريقاً إلى الجنة.
فالحديث بجملته ورمته فيه أفعال من العباد وفيه في مقابل هذه الأفعال جزاءاً ومنن تترى وتتوالى من الله عز وجل جزاءاً على كل فعل وعلى كل عمل من هذه الأفعال تحت هذا الأصل العام العظيم هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ” وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ” إن الجنة كما أخبر صلى الله عليه وسلم قد حفت بالمكاره فطريق الجنة طريق صعب تعتريه المشاق وتكثر فيه الأشواك، لكن هذا الذي يتلمس هذا الطريق يخفف الله عنه هذه المشاق ويخفف عنه هذه المكاره فيجعل له طريقاً يسيراً سهلاً هيناً ليناً يصل به إلى رضوان الله والجنة وأصل العلم وميزان العلم هو كتاب الله عز وجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر العلم، يذكر طريق العلم، كيف نصل إلى هذا العلم قال: ” وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ ” محل الرحمة والمحل البركة، ماذا كانت علة اجتماعهم لماذا اجتمعوا في هذا المحل الطاهر؟ ” يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ ” التفقه والتفهم، لأن المقصود أن يعلم العبد مرادات الله عز وجل من كلاماته يستنير بهذه الكلمات كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لا تنته بركاته ولا تنته خيراته، لكن لا نصل نحن إلى بركاته ولا إلى خيراته إلا عبر تدبره كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ثم هذا التدبر يورث الاتعاظ والتأثر والتذكر لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ثم أثر ذلك وعاقبته وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ” يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ ” الطمأنينة ” وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ” ثم قال صلى الله عليه وسلم معقباً بعد كل هذه الخيرات ” وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ” ربما اعتمد العبد في تخلفه عن هذا التعلم وهذه القراءة وهذه المدارسة وهذا التفريج للكربات وهذا التيسير وهذا الستر اعتمد على نسب شريف سوف يوصله إلى هذه المراقي، إنما المدار على العمل، لا ينفع عبد نسبه إذا لم يكن على ما يحب الله عز وجل في ميزان الإيمان والعمل لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا، ” وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ “.
ونختم بحديث البراء رضي الله عنه يخبر عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ” بينا هو في ليلة يقرأ في سورة الكهف يقول وفرسه عنده مربوطة بشطنين ” مربوطة بحبل ” إذ تغشته سحابة فوق رأسه فجعلت تدور وتدنو فجعلت فرسه تجول ” الفرس بدأت تتحرك وتضطرب ” فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: ” تلك السكينة تنزلت للقرآن “.
وعند مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول أن أسيد بن حضير رضي الله عنه أخبره بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ ” وفي رواية أنه كان يقرأ سورة البقرة ” فِي مِرْبَدِهِ ” المربد هو الاسطبل ” إِذْ جَالَتْ ” بدأت تتحرك حركة فيها اضطراب ” فَرَسُهُ فَقَرَأَ ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى فَقَرَأَ ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا قَالَ أُسَيْدٌ فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى ” أي ابنه ابن له صغير ” فانصرفت ” أي امتنع عن تتميم القراءة فلما أصبح أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك قال يا رسول الله: ” فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَمَا أَنَا الْبَارِحَةَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ أَقْرَأُ فِي مِرْبَدِي إِذْ جَالَتْ فَرَسِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ قَالَ فَقَرَأْتُ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ قَالَ فَقَرَأْتُ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ قَالَ فَانْصَرَفْتُ وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا خَشِيتُ أَنْ تَطَأَهُ ” يقول أسيد: ” قال فنظرت ” بعدما سكنت الفرس ” في السماء فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ ” السحابة الكبيرة ” فَوْقَ رَأْسِي فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ ” سحابة فيها مصابيح ” عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا ” يعني هو لما بص فوق كانت قريبة فيها أنوار كتير وبعد كده بدأت تصعد شيئاً فشيئاً وهو يتابعها ببصره حتى اختفت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” تلك الملائكة نزلت تستمع لقرائتك ولو قرأت ” لو استمريت في القراءة ” لأصبحت يراها الناس وما تحتب منهم ” فإذاً أثر هذه القراءة هو نزول السكينة وحفوف الملائكة لهؤلاء الذين يقرأون فليست القضية هي مجرد أن نقرأ وإنما أن نقرأ القراءة التي تستتبع هذه السكينة وتستبع هذه الطمأنينة، ربما نقرأ ونحن نصلي ولكننا لا نستشعر عادة وغالباً هذا الشعور لا نستشعر تنزل السكينة، لا نستشعر شعور الرحمة، فنحن إذاً لم نصل إلى بغيتنا بعد، إن علينا أن نقرأ وأن نحسن قراءتنا وأن نخشع في قراءتنا وأن نتدبر قراءتنا حتى نصل إلى هذه الغاية المنشودة من القراءة ومن التنزيل، فكما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأون حينما كانوا يقرأون هذه القراءة كانت تحدث لهم هذه السكينة وهذه الطمأنينة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فغاية قراءتنا هو حصول السكينة والطمأنينة وغشيان الملائكة لهذه الأماكن الطيبة ولهذه القلوب التي تبتغي نيل رضوان الله عز وجل، كما كانت غاية الإيمان بيوم الحساب، غاية الصلاة والخضوع والخشوع لله تبارك وتعالى هو ألا يدع اليتيم وألا يمنع الماعون وأن يحض على طعام المسكين، فإذاً لهذه العبادات غايات وحكم عظمى أرادها الله عز وجل مقصود هذه الشعائر مقصود هذه القراءة أخلاق وسلوكيات ومشاعر قلبية وتغيرات في باطن العبد وفي ظاهره، إذا لم نصل نحن إلى هذه الغاية فنحن لم نحقق مقصود العبادة لم نحقق مراد الله عز وجل منا، فالميزان الذي يجب أن نزن به، هو هذا الميزان الذي بينه ربنا تبارك وتعالى والذي بينه رسولنا صلى الله عليه وسلم ونعلم علم اليقين أنه كما قال الله تبارك وتعالى هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ فالله عز وجل لابد أن يشكر عبده إذا أحسن عبادته لله أن يرزقه الله كل هذا الخير وكل هذا البر وكل هذه الرحمة التي تغشاه وكل هذا التيسير وكل هذا الستر وكل هذا التفريج في الأولى وفي الآخرة.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا
متعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أبقيتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا ..
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا
اللهم هيأ لنا من أرمنا رشداً، اللهم هيأ لنا من أرمنا رشداً، اللهم هيأ لنا من أرمنا رشداً.