إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد،.
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ يخشى موسى عليه السلام أن يضيق صدره بما يسمعه من التكذيب وبما يلقى في وجهه وعلى سمعه من وجوه الأباطيل فيضيق صدره ضيقاً لا يمكنه من الكلام تعترك وتصطرع المعاني في باطنه وتتزاحم على لسانه حتى لا يملك أن ينطق بكلمة فحينما تتكاثر الهموم ربما يعبث الإنسان عن أن يتكلم، وحينما يتسع الخرق ربما لا يمكن للراتق أن يؤدي عمله، اتسعت الخروق في ثوب الأمة بحيث أصبح من الأمور التي تعجز الراتقين الذين يريدون أن يرقعوا هذه الخروق المتناثرة أن يحيطوا بها، أو أن يملكوا رتقها.
حكي أن رجلاً من العرب أرسل صائداً له لكي يصيد له صيداً فخرج هذا الصائد كي يتتبع الصيد فإذا بهذه الصيود قد خرجت عليه فجأةً من كل مكان فهو ينسك سهمه يريد أن يظفر بصيد أو بظبيٍ واحد كي يوقع فيه سهمه، فإذا هي تخرج عليه فجأة عن يمينه وعن يساره ومن أمامه ومن خلفه حتى أنه وقف باهتاً لا يستطيع أن يصنع شيئاً، سهمه في يده لا يدري على أي هذه الصيود يوجه سهمه فلم يطلق منها سهماً على واحد فجعل يقول ” تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٍ ما يصيدُ ” هيصطاد د ولا ده ولا ده.
فوقف باهتاً عاجزاً لا يستطيع أن يفعل شيئاً، وصدق القائل ” لو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثٌ، فهو لا يدري أيّ هذه السهام يتقيها.
وهكذا السهام التي توجه إلى قلب الحقيقة وإلى وجه الحق الناصع المبين وإلى صدر هذه الأمة وأصولها وكتاب ربها وهدي نبيها صلى الله عليه وسلم حتى أنك لتقف في لحظةً ما لا تدري ماذا تقول، تكاثرت الأحداث بحيث لا يمكن أن تحيط بها الأحاديث، تتكاثر البلايا والرزايا بحيث يقف المتكلم لا يدري بما ينطق، ولا يدري ما يقول بل ربما وصل هذا إلى حد أن أصبح المتلقي لهذه الأمور من كثرتها وتتابعها ربما لم تعد تؤثر فيه، ولا أن توقع في قلبه أثراً، كما كان يقول أبو الطيب يقول:
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاءٍ من دامائي
من كثرة ما ألقي عليه ومن كثرة ما أصاب قلبه من السهام أصبحت السهام نفسها بكثرتها كالغشاء الذي يحيط بهذا القلب.
فصرت إن أصابتني سهامٌ تكسرت النصال على النصال
لكثرتها تضرب بعضها بعض
فهان فما أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي
فهان فما أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي
لأني ما انتفعت بأن أبالي
ونحن في مكاننا هذا إنما نبتغي أن نحقق أصلاً واحداً، إن كل غايتنا من كل ما نتكلم فيه هو أصلٌ واحد، قول الله عز وجل قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
هذه سبيلي: طريقي الذي أسلكه أنني أدعو الناس إلى ربهم تبارك وتعالى على بصيرة، هذه البصيرة هي التي نسعى جاهدين لأن ننال من نورها ولو شيئاً بسيطاً يسيراً ينير لنا السبيل، يهدينا في هذه الظلمات الحالكة أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا هذا النور لكي يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ هذه البصيرة.
ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة ” منّة منه وكرماً وفضلاً – سبحانه وتعالى، ” إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ” الله عز وجل جعل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فليس بعده نبي وليس بعده رسول، لذا اقتضت رحمته سبحانه وتعالى وحكمته لما لم يكن بعد هذا الرسول العظيم رسول أن يبقى هذا الدين حجّةً قائمةً إلى قيام الساعة، ولذلك امتنّ الله عز وجل علينا بأن يجدد لنا معالم ديننا بأن يجلي لنا هذه الحقائق كلما غشى عليها عوادي الدهر وعوامل التعرية، تتجدد دائماً بحيث تبقى مناراً واضحاً سبيلاً جلّياً بيّناً لكل من أراد أن يطلب الطريق، قال تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، فال الله عز وجل وَأَنَّ هَذَا هذه الإشارة باسم الإشارة تدل على الوضوح والتعيين بحيث يبدو هذا الطريق ويبدو هذا السبيل واضحاً بيّناًلكل راءٍ وناظر، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
وقول ابن مسعود رضي الله عنه ناصحاً مرشداً موجهاً ” لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم ” ، ينصح عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ينصحنا بأن نلتزم أو نوطّن أنفسنا في مواطن الحق، ولا يمكن للإنسان أن يحقق هذه النصيحة إلا بأن يكون عنده الميزان والمعيار الذي يميز به الإحسان من الإساءة، يميز به المحقّ من المبطل،يميز به وجه الحق من وجوه الباطل التي قد تلتبس به لأنه ربما التبس الحق بالباطل بفعل بعض العباد لذلك نهى الله عز وجل يهود عن هذا فقال وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فحاجتنا وغايتنا من كل هذه الكلمات هي السعي لتحقيق شيءٍ من البصيرة والخروج عن وصف التقليد والتبعية بغير وعيٍّ وبغير فهم، قال صلى الله عليه وسلم ” من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ” علامة أن الله سبحانه وتعالى يريد بعبد الخيرأن يفقه ويفهم حقيقة الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كنا قد تحدثنا عن ” سلطان الحق ” وذكرنا أن لهذا الحق الذي أنزله الحق تبارك وتعالى بالحق على قلب محمد صلى الله عليه وسلم أن له سلطاناً على القلوب وأنه لا يملك العبد أن يدفع هذا السلطان عن نفسه وإن جحد هذا بلسانه، وذكرنا كيف نعى الله عز وجل عن الذي ينسلخ من آيات الله بعد أن آتاه الله عز وجل إياها.
ثم في الخطبة التي تليها تحدثنا عن هذا الحق الإلهي العظيم حينما يتمثل في صورة واقع حيّ وذكرنا كيف تمثل هذا الحق في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا الحق ليس مجرد حقٍّ نظري أو تصورات أو معتقداتٍ قلبية وفقط، وإنما يتمثل هذا الحق في صورة حياة، إنما أنزل الله عز وجل الكتاب لكي يحيا به الناس الحياة التي ترضي الله تبارك وتعالى والتي تحقق الخير والرشاد والسعادة للعباد في معاشهم ومعادهم،في دنياهم وفي أخراهم، فكان لابد لهذا الحق أن يتمثل في صورةٍ، صورة مشاهدة مرئية نستطيع نحن على هذا البعد في السنين وهذا التوالي للدهور الذي بيننا وبين هذه الصورة الأولى التي صنعها الله عز وجل على عينه بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم نستطيع نحن على توالي السنين والدهور أن ندرك وأن نبصر هذه الصورة فكان حديثنا عن هذا الحق حينما تمثل في المدينة، وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرص أشد الحرص على أن ينفي عن هذه المدينة التثريب،فقلنا إن هذه المدينة قبل أن يشرق عليها هذا النور، قبل أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيمانه وبقرآنه كانت ” يثرباً ” حيث التثريب وهو الفساد والإفساد والعيب والانتقاص والتطاحن والاقتتال،فأي مدينة لا يشرف عليها هذا النور الإلهي يكون هذا وصفها، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وطأت قدمه هذه الأرض أن ينفي عنها هذا الوصف وأن تتحقق بالوصف الجديد الذي تستحق أو الذي سوف يسعى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنائه وهو وصف ” المدينة ” ووصف ” الدار ” ووصف ” طيبة ” و” طابة ” ،قلنا هذه ثلاثة أوصاف للمدينة التي أرادها الله عز وجل لعباده المؤمنين، قلنا ” الدار ” التي تعني الأمن والاستقرار، و” المدينة ” حيث الرقيُّ والرفعة والتحضر،وطيبة وطابة: حيث الحياة الطيبة وحيث العيش الهنيء الذي يطمئن إليه قلب العبد، ويجد فيه ما تحتاجه روحه، وما يحتاجه بدنه وجسده كذلك في حدود ما يبلغه مرضاة الله عز وجل
فهذه الكلمات لم تطلق هكذا عبثاً، نحن تكلمنا قبل عن كلمة الشريعة وذكرنا ما في مضمون هذه الكلمة من معانٍ أردانا الله عز وجل أن نعيها، وكذلك في هذه الكلمات حينما يسميها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إنما يرسم بهذا منهاجاً لهذه المدينة، حينما يقول إن هذه طابة، ويقول كما روى الإمام أحمد عن سمرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل سمى المدينة طابة هذه التسمية إنما سماها الله عز وجل لهذه المحلة، لوصفٍ تحقق فيها ووصفٍ أرادها الله عز وجل عليها.
إذاً أراد الله عز وجل لمدينتنا أن تكون داراً وأن تكون مدينةً وأن تكون طيبةً وطابة، فإن لم تكن كذلك كانت يثربً حيث الفساد والإفساد. وإذاً فهدفنا وغايتنا هو تحصيل هذه البصيرة التي سوف تنير لنا الطريق بحيث نسير على هدىً من الله عز وجل ولكي يتم لنا هذا يجب أن نحذر مما يضاد هذا مما يلتبس علينا بسببه الحق بالباطل.
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه، كما في سنن أبي داود ” إن من ورائكم أيام الفتن يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه – أي يتلوه ويحفظه – المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والعبد والحر والصغير والكبير فيوشك قائل أن يقول :مال الناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ما هم بمتّبعيّ حتى ابتدع لهم غيره.
قال معاذ رضي الله عنه محذراً: فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يلقي كلمة الضلالة على لسان الحكيم،وإن المنافق قد ينطق بكلمة الحق، فقال أبو إدريس الخولاني رحمه الله سائلاً معاذ بن جبل إذ يقول إن الحكيم أي الإمام أو العالم قد يقول أحياناً كلمة ضلالة،وإن المنافق الذي ينبغي أن يحذر قد يقول أحياناً كلمة الحق فما الميزان.
فيقول: وما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق. قال معاذ: بلى هذا يحدث فاجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها ما هذه، ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعلّه أن يراجع، وتلقى الحق إذا سمعته فإن على الحق نورٌ.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله، يقول معاذ: ” إن من ورائكم فتنناً يكثر فيها المال ” ، وهذا مما يفتتن به العباد لأنه عادةً ما يشغلهم عن الله والدار الآخرة فيكون هذا خطراً وأي خطر. ليس هذا المال في ذاته وإنما فيما يترتب عليه من الخطر.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى صلاة الصبح فلما انفتل من صلاته وقام وجد الناس مجتمعين ينتظرونه،كانوا فقراء ذوي حاجة ومساكين وأتى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بجزيةٍ ومالٍ كثير من البحرين، أتى به ليلاً فتسامع الناس به فاجتمعوا في صلاة الصبح، ووقفوا ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظرون إليه فتبسم وقال لعلّكم سمعتم أن أبا عبيدة جاء بمالٍ من البحرين، قالوا بلى يا رسول الله، قال: فأبشروا ما يسركم، ثم قال صلى الله عليه وسلم ” فوالله ما الفقر أخشى عليكم ” فلعلّه أن يكون أقل كثير، ” فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم ” .
يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن، يتوسع الناس ويتّسعون في حفظ كلام الله حتى يأخذه الناس جميعاً، المؤمن والمنافق، الرجل والمرأة، العبد والحر، الصغير والكبيرفيأتي شخصٌ يبتغي الرفعة ولعلّ هذا هو مكمن الداء، هو يريد أن يكون إماماً متّبعاً فإذا تلا على الناس القرآن لم يكن له به مزيّة وفضل فهو يقول ” مال الناس لا يتّبعوني وقد قرأت القرآن، ما هم بمتّبعي حتى ابتدع لهم غيره. هيجيب كلام جديد، حتى يلتفت إليه ناس، ويلتف حوله الناس.
وإذاً فأخذ القرآن بمجرده من دون علمٍ وفهمٍ ووعيٍ وتدبر لكلام الله كما أمر الله ربما لم يكن خيراً بل ربما كان على عكس ذلك.
وقد تقدّم معنا قبل من فترة مضت، أن ذكرنا حديث عابس الغفاري رضي الله عنه عند أحمد والطبراني في الكبير، وهذا اللفظ لفظ الطبراني أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بادروا بالأعمال ستً – أسرعوا بالعمل الصالح قبل أن تأتي عليكم هذه الستَ الأشياء، ” بادروا بالأعمال ستً؛ إمرة السفهاء ” أن يكون الحكام والأمراء والولاة هم السفهاء والحمقى ” إمرة السفهاء ” هذا أول البلايا، ثم ” كثرة الشرط ” اقتران هذا بهذا إذا كان هذا سفيهاً وأراد أن يتسلط على العباد لن يتمكن من ذلك إلا بقهرٍ وقمع ” إمرة السفهاء، كثرة الشرط، بيع الحكم ” الرشوة والفساد في النظام القضائيّ، وهذا مرتبط بسبب بما قبله وما قبله، هذه كلها آخذ بعضها بحجز بعض، ” إمرة السفهاء، كثرة الشرط، بيع الحكم، استخفافاص بالدم، قطيعة الرحم ” ترتب على هذا أن يستخف بدماء الناس، وأن تقطع الأرحام بسبب المناصب وبسبب الأموال، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ الله سبحانه وتعالى ذكر هذا وذكر علّة هذا الفساد عدم تدبر كلام الله عز وجل ولذلك ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصال الست بعد ” إمرة السفهاء، كثرة الشرط، بيع الحكم، استخفافاص بالدم، قطيعة الرحم، ونشواً – جيلاً ينشأ – نشواً يتّخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلّهم فقهاً ” لأن العاصم من كل هذا الفساد هو التمسك بالقرآن، العاصم من كل هذا الخلل هو تدبّر وتفهم وترسم هدي القرآن فإذا تحوّل القرآن إلى مزامير أي أصوات وفقط ويقدّم الشخص، وإن لم يكن أهلاً للتقدم لا لشيء إلا لحسن صوته وفقط، كان هذا مؤذناً بهذا التغير وهذا الفساد، ولذلك قال معاذ بن جبل محذراً من هذا أن هذا يفتح على العباد فيتناوله الناس كلُّ الناس بغير فقهٍ وبغير فهمٍ ويريد المريد أن يترأس على الناس بالقرآن فلا يجد فيهم قبولاً له فحينئذٍ يحتاج لأنه يريد الرئاسة أن يبتدع لهم غيره.
ثم يقول معاذ بن جبل ” وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يلقي كلمة الضلالة على لسان الحكيم ” الحكيم أي الإمام العالم الحقيق بالاتباع ربما يزلُّ زلة، ربما يخطئ خطأً، حينئذٍ يحذر معاذ بن جبل من أن نتّبع الحكيم في زيغته ويقول في مقابل ذلك، إن علينا أن نقبل كلمة الحق من كل من قالها وإن كان هذا القائل ليس أهلاً لقبول قوله، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه والحديث في البخاري حينما قال له أبو هريرة إنه حينما كان يحرس الطعام الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حارساً عليه، أتاه آتٍ في الليل ؛شخص هو لا يراه في الظلمة، يحثوا أي يأخذ من الطعام فأمسكوه ثلاث مرات، كلما أمسكه وأراد أن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذر بأن له عيالاً وأنه لا يعود ففي المرة الثالثة نصحه نصيحة، قال إذا آويت إلى فراشك فقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له هذه الكلمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم :صدقك وهو كذوب،أتدري من تحادث يا أبا هريرة منذ ثلاث، قال إن ذلك شيطان.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: صدقك، فقبل منه هذه القولة من الحق مع أنه كذوب فجمع بين أن حذره منه من أن يتّبع قوله أو يثق فيه، ولكن قال له إن هذه القولة قولة حقٍ وصدق، وهذا يدل على أثر وفائدة الخبرة والتخصص، الشيطان عرف من اين هذا، كل ما يلاقي واحد بيقرأ آية الكرسي مايعرفش يعمل معاه حاجة، ما بيقرأش صورة الكرسي بيظبطه طول الليل، فهو أدرك ده عبر الخبرة، فإذاً الخبرة لها أثر ولها عامل فمن خلال هذه الخبرة قال هذه الكلمة التي صدّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي من الله تبارك وتعالى.
يبقى إذاً الحكيم قد يقول كلمة الضلالة والمنافق قد يقول كلمة الحق.
أبو إدريس الخولاني رحمه الله يطلب معياراً أو ميزاناً فيقول له معاذ: اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها ما هذه، الكلمة التي إذا سمعناها تعجّبنا منها واستغربنا، ما هذا هو جاب ديه منين، كلام غريب منعرفوش ده مش كلام العلماء.
فإذاً جعل لنا ميزاناً ومعيار أن نحن ندرك الأصول، ندرك كلام أهل العلم، فندرك أن هذه الكلمة، أو أن هذه الجملة خارجة عن هذا، والتي اشتهرت بين الناس، الذي يشتهر ويتناقل هو الغريب الشاذ وليس المألوف المعتاد، أصل الحجات العادية ما حدش بيلتفت إليها، ايه ده!! ايه اللي هو بيقوله ده!!، فبيشتهر بين الناس الشيء الغريب المستنكر وليس الشيء المعتاد المألوف لكنه يقول ” ولا يثنيّنك ذلك عنهم ” يعني احن نتجنب هذه الكلمة، لكن يبقى هذا الشخص العالم الذي هو محل الخير هو لازال باقياً محلاً للخير، فإنه لعلّه أن يراجع، يتوب وينيب ويرجع عما قاله من هذه الكلمة الضالّة، ” وتلقى الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً ” اقبل الحق من كل من جاء به.
إذاً عدنا بهذه الكلمات إلى أمرنا الأول، نحن نحتاج إلى وعيٍ وفهم، إلى ميزان بحيث إذا جائت هذه الكلمة الزيغة من الحكيم استخرجناها، وإذا قال المنافق كلمة الحق، لأننا نعلم الحق قبلناها ولذلك نحن أحوج ما نكون إلى كما قلنا مراراً إلى تدبّر القرآن لأنه هو العاصم من الفتن، نحتاج إلى أن نعلم أصول ديننا لكي نتمسك بها ونتشبس في وقتٍ يقل فيه العلم، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، النبي صلى الله عليه وسلم قال كما روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أنس رضي الله عنه، قال ” إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل وتشرب الخمر ويظهر الزنا ” كآثار لرفع العلم وثبوت الجهل.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عمرو عند البخاري ” إن اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزِعُهُ من العبادِ، ولكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذَ الناسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فسُئِلوا، فأفْتَوا بغيرِ علمٍ، فضلوا وأضلوا. “
الله سبحانه وتعالى لا يخرج العلم من صدور أهل العلم، وإنما يقبض العلماء ولا يخلفهم غيرهم لزهدنا في العلم والتعلم فنحتاج إلى أئمة، لابد أن يكون لنا أئمة، لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ليس لهم أئمة، ولا سراة لهم إذا جهّالهم سادوا.
” فيتخذ الناس رؤساء جهّالاً ” فإذا سئلوا استنكفوا واستكبروا أن يقولوا لا علم لنا، فأجابوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا يرفع العلم، ويثبت الجهل ويستقرفيترتب على رفع العلم وثبوت الجهل، الفساد والتغير في الأحوال فتظهر المنكرات، هذا أثر لرفع العلم وثبوت الجهل.
وذكر النووي رحمه الله في رواية قال ” ويبثّ الجهل ” وقال الكرماني وفي رواية ” وينبت الجهل ” ، يثبت الجهل ديه معناها يستقر في مواقعه، هو كان موجود لكنه استقرّ وثبت برف العلم، وفي هذه الرواية الثانية ” يبثّ الجهل ” البثّ الإعلام، يبثّ الجهل؛ يوزع على الناس في أقساطٍ وفي صور ممنهجة، يبثّ الجهل، وفي الرواية الثالثة ” ينبت الجهل ” نتعلم الجهل من الصغر فنكبر عليه درجة درجة، هذا الجهل كأنه زرعٌ يزرع، يغرز في نفوس الصغار فيكبرون وينشأون على هذا الجهل، حيث الإعلام في البثّ وحيث التعليم في الإنبات، يثبت الجهل ويستقر بالبثّ والإنبات.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً إلا نبّه عليه وحذّر منه ” يبثُّ، وينبت ” .
وقال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم عن أبي هريرة ” يتقارب الزمان ويقبض العلم، وتظهر التفن – ظهور الفتن كأثر لقبض العلم، حيث تلتبس الأمور – ويلقى الشُحّ ويكثر الهرج، قيل يا رسول الله وما الهرج؟ قال: القتل ” . لهذه الآثار كثرة الفتن الالتباس والاضطراب والاختلاط في الأمور حتى ما ينقل إلينا من أخبار لا ندري أصدقٌ أم كذب فتلتبس الأمور وتضطرب وتزداد الفتن ويكثر الهرج، والهرج هو كثرة القتل حتى ” لا يدري القاتل فيما قتل ولا المقتول فيما قُتل ” فالعاصم من كل هذا التمسك بالحبل المتين كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك، بنو إمائك، في قبضتك نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضائك، نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وذهاب أحزاننا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم ألبسنا به الحلل، واسكنا به الظلل، واجلب لنا به النعم وارفع به عنا النقم، واجعلنا بما أنعمت به علينا من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين.
اللهم لا تجعلنا ممن استهوته الشياطين، وشغلته الدنيا عن الدين.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم