Generic selectors
المطابقات الدقيقة فقط
البحث في العنوان
البحث في المحتوى
Post Type Selectors
البحث حسب التصنيف
أحداث جارية
أسماء الله الحسنى
الأذكار
التلون
السيرة النبوية
القصص في القرآن
الكتب
بني آدم والشيطان
بني إسرائيل
تراجم
تربية
تربية
تفسير
جهد الغلبان في تبيان فضائل القرآن
خطب الجمعة
خطو خاتم الأنبياء ما بين اقرأ وإذا جاء
دروس
رمضان 1436هــ - 2015م
سلم الوصول إلى علم الأصول
عقيدة
غير مصنف
كتابات
كلمة التراويح
مسألة الرزق
من قصص كتاب التوابين
من هدي النبوة
مواسم الخير
هذه أخلاقنا

الخضر وموسى وأسرار القدر

الحمد لله  الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيدا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيدا،

ثم أما بعد:

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ۝فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا۝ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ۝قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ۝قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا

لقد شهدنا موسى عليه السلام في مواطن عديدة ومحنٍ وابتلاءاتٍ كثيرة،وانتهينا معه إلى حيث المحنة الكبرى في هذا التيه الذي بقي فيه بقية عمره يصاحب أسافل الناس وأراذلهم، وها هو موسى عليه السلام يقوم خطيباً في قومه يعظهم وينصحهم ويذكرهم، قائماً بحق الله الذي أوجب عليه لا ييأس من هداية ولا يقطع أمله عن استجابة أو انتفاع بهذه النصيحة فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ۝لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ولما انتهى موسى عليه السلام من وصيته و نصيحته سأله سائل: يا نبي الله هل في الأرض أحدٌ أعلم منك، فقال: أنا أعلم.

  فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرد العلم إلى الله تبارك وتعالى فلما سئل هذا السؤال أجاب على وفق علمه وإحاطته والعبد، أي عبد من عباد الله عز وجل مهما بلغ من سعة العلم وإحاطته فلابد أن تغيب عنه أشياء وأن تعزب عن علمه كثيرٌ من الأمور فإنه لا يحيط بالعلم إلا الله تبارك وتعالى وحده، فقال موسى عليه السلام عجلاً: أنا أعلم.

فلما قالها عتب الله عز وجل عليه وأخبره أن عبداً من عباده بمجمع البحرين هو أعلم من موسى عليه السلام .

وإذاً فالعبد، أي عبدٍ مهما بلغ من العقل والفهم والحلم فربما يتعجل في بعض أموره، ربما لا يوفق للصواب في بعض أجوبته حتى ولو كان نبياً من أولي العزم من الرسلصلى الله عليه وسلم، وما كان لموسى عليه السلام أن يتعجل بجوابه إلا بسبب هذا السؤال الذي طرح عليه وهو سؤال لا نفع فيه ولا فائدة، فإن الإنسان إذا ألقيت عليه نصيحة أو موعظةً أو وصية، إنما يفيده ويشغله انتفاعه واستفادته من هذه النصيحة أو الوصية، لا يعنيه إن كان هذا المتكلم هو أعلم الناس أو ليس بأعلمه، لا يعنيه أن يحدد مقدار ومبلغ العلم الذي لدى ذلك الشخص الذي ينصح أو يعظ أو يوصي، لكنها طبيعة النفوس التي تريد أن تحيد عن العمل وعن التزام حقيقة النصيحة والوصية إلى أي اتجاه جانبي يأخذ الأمر عن حقه وعن حقيقته،

فلما أخبره الله تبارك وتعالى بهذا الخبر أراد موسى عليه السلام أن يلاقي وأن يصاحب هذا الرجل الذي وصفه الله عز وجل بأن عنده من العلم ما ليس عند كليم الرحمن موسى عليه السلام، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ  سائراً في طريقي حتى أبلغ هذا المكان الذي أولاقي فيه هذا الرجل  أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا  سنين متطاولة لا يأتي عليها العدّ، هو على استعداد أن يمضي على قدميه يسير سنواتٍ وسنوات حتى يلاقي هذا الرجل الذي أخبره الله عز وجل عنه.

 وأول ما نلمسه من هذه القصة: حاجة موسى عليه السلام إلى هذا اللقاء وإلى هذه الرحلة وأن الله عز وجل ربما يقدر أموراً ويسوق مقاديراً لحكمة بالغة يعلمها- تبارك وتعالى-.

شاء الله عز وجل لموسى عليه السلام أن يصحب وأن يلقى هذا العبد الصالح فقدر سبحانه وتعالى أن يرد هذا السؤال وأن تكون تلك الإجابة حتى يدرك موسى عليه السلام أن هناك رجلٌ من أهل الأرض يحتاج إلى لقائه وإلى أن يتعلم منه فلم يكن في علم موسى لما قال- عليه السلام – لما قال أنا أعلم، لم يكن في علمه أن هناك رجلاً هو على علمٍ ليس عند موسى- عليه السلام – .

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدّر الله عز وجل وفاة زوجه التي كانت تحنو عليه وتواسيه ووفاة عمه الذي كان يحفظه ويرعاه ويحميه، ولما اشتدّ عليه أثر هذه الفواجع ولما اشتدّ عليه بالتبعة ضغط قريشٍ وإيذاؤهم قدّر الله عز وجل له أن ينتقل إلى بيت المقدس ثم يعرج إلى السماء ليلقى ربه عز وجل ، كانصلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات يحتاج إلى هذه الرحلة، كانت روحهصلى الله عليه وسلم تحتاج إلى أن تخرج من هذا المكان الضيّق إلى مكان رحب يلقى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبه ومن سبقوه من النبيين لكي تنتعش روحهصلى الله عليه وسلم بهذا اللقاء وفوق ذلك يعرج في مراقي الصعود إلى السماوات ليلاقي ربه عز وجل ويشافهه ويخاطبه ويعطيه هذه المنّة الكبرى وهذه النعمة العظمى التي هي نعمة الصلاة.

كذا كان موسى عليه السلام في هذه الصحراء وفي هذه المحنة ومع هؤلاء القوم يحتاج إلى أن يخرج من بين ظهرانيهم ليلاقي هذا العبد الصالح في هذه الرحلة الطيبة الصالحة، فكان تقدير الله عز وجل له بذلك.

يقول تعالى فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ۝فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا بيّنصلى الله عليه وسلم في حديث أُبي بن كعب عند البخاري وغيره أن موسى عليه السلام لم يستشعر التعب أو النصب إلا بعدما جاوز الحدّ الذي حدّه الله عز وجل له، لقد أخبره الله تبارك وتعالى أنه سيلقى عند مجمع البحرين هذا العبد الصالح الذي أرشده الله عز وجل إليه.

وإلى أن وصل إلى مجمع البحرين لم يكن موسى عليه السلام يستشعر تعباً ولا نصباً، لكنه لما تجاوز هذا الحد وتجاوزه ليس عمداً وإنما نسياناً وخطأً، لما تجاوز هذا الحد الذي حدّه الله عز وجل له حينئذٍ وحينئذٍ فقط كما يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينئذٍ وحينئذٍ فقط استشعر النصب والتعب والمشقّة وإذاً فالعبد أيُّ عبدٍ طالما وقف عند الحدود التي حدّها الله عز وجل له ولم يتجاوزها سيبقى في إطار السعة والنعمة والرحمة، أما إذا تجاوز العبد حدود الله عز وجل التي حدّ له حينئذٍ وحينئذٍ فقط يستشعر التعب والنصب والمشقّة.

قال الله تبارك وتعالى وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وقال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  يظلمون أنفسهم بتجاوزهم حدود الله عز وجل التي حدّ لهم فلما استشعر النصب والتعب أراد أن يرتاح وأن يأكل فأخبره فتاه أنهم حينما انتهوا إلى مجمع البحرين خرجت السمكة التي كانوا يأكلون منها، خرجت من المئتل أو الزنبيل التي كانت قابعة فيه وردّ الله عز وجل لها الحياة حينئذٍ فأخذت طريقها كسربٍ في البحر.

فالله عز وجل جعل علامة لموسى عليه السلام للقاء العبد الصالح أن تحدث هذه المعجزة التي أخبر عنها ربنا تبارك وتعالى وربما لم يكن من العجيب أن يجعل الله عز وجل آية لقاء أهل العلم وآية الاتصال بهم هي عودة الحياة للبدن الميت، قال الله تبارك وتعالى أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا  قال الله تبارك وتعالى واصفاً القرآن  وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .

الله عز وجل جعل نوره وجعل هدايته وجعل دينه الذي أنزل جعله حياةً لقلوب العباد، فالعباد من دون هذا النور، من دون هذا الوحي من دون هذا الاتصال بالله عز وجل إنما هم موتى يبعثهم الله عز وجل بهذا النور وبهذا العلم،

فلما وصلوا إلى محل العلم والتعلم إلى محل الاتصال بنور الله عز وجل كانت الحياة لهذا الحوت الذي سلك سبيله في البحر سربا، ولأن الله عز وجل رحيمٌ بعباده ييسر لهم أسباب الخير، لما سلك هذا الحوت طريقه في البحر، أمسك الله عز وجل جرية الماء كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أُبي الذي أشرنا إليه آنفا، المكان الذي نزلت فيه هذه السمكة إلى البحر أمسك الله عز وجل وقبض جرية الماء حتى يبقى أثرها قائما حتى إذا عاد موسى عليه السلام أدراجه اهتدى إلى المكان الذي كان ينبغي عليه أن يمكث فيه ليلقى الخضر.

فالله عز وجل إذا أوصانا بوصية أو أمرنا بأمر حتى لو تجاوزنا هذا الأمر، الله عز وجل برحمته يمسك علينا أسباب ومنارات وعلامات النور والهداية لا يحجبها عنّا تبارك وتعالى بمنّه وكرمه وفضله.

هذا الغلام وهذا الفتى يوشع بن نون إنما أوصاه موسى عليه السلام بوصية واحدة وأمره أمراً واحداً ليس له ثاني، هذا الأمر هو أن يحفظ هذه اللحظة ؛ هو أمره أن يفعل شيئاً واحداً ؛إذا خرجت هذه السمكة من الماء وولجت إلى البحر حينئذٍ يطلب منه أن ينبهه على هذا الأمر.. هي وصية واحدة، يعني المهمة التي أمره بها هي مهمة واحدة ومع ذلك نسيها أيضاً ولم يتذكرها إلا بعدما سار هذا المسير الطويل.

فلما عادا أدراجهما رأى موسى عليه السلام الخضر عليه السلام مسجى -أي مغطى بثوب- فالقى عليه السلام، فقال له الخضر: وأنّى بأرضك السلام وأين السلام بهذه الأرض التي نحيا عليها ونعيش، وأنى بأرضك السلام لفظاً ومعنى،عبارة وحقيقةً وواقعاً وسلوكاً.

أنى بأرضك السلام: أي أنى لك، أو أنّى لنا بهذه الكلمات وصى هؤلاء القوم الذين لا علاقة لهم بهذا السلام.

وأنّى بأرضك السلام وسط هؤلاء القوم الذين لا يعملون لأجل هذا السلام، السلام هو التحية التي أعطانا الله عز وجل إياها عوضاً عن التحايا التي يتحيا بها أهل الجاهلية وغيرهم ممن لم يهتدوا بهدي الله عز وجل، كلمة تحمل معنىً عظيماً،

إن الإنسان حينما يلقى صاحبه يبتدؤه بهذه الكلمة التي تعني عهداً وميثاقاً والتزاماً مني بألا يصلك ولا يأتيك مني إلا كل سلام وسلامةٍ وأمن، إنني أتعهد لك بأنه لا يصلك مني إلا السلام والسلامة والأمن، أتعهد بها لفظاً وأحققها حقيقةً وواقعاً وسلوكاً،

فهو يقول له متعجباً أنى لهذه الأرض التي لا تستضيء بنور الله عز وجل ، أنى لهؤلاء الناس الذين يعرضون عن هديه تبارك وتعالى وعن سنّته أنّا لهم بالسلام، فليس ثمَّ سلام إلا إذا كان ثمَّ إسلام، فحينما يكون هناك إسلام واستسلام للسلام- تبارك وتعالى-حينئذٍ يكون السلام، ولذلك كانت هذه الكلمة أول كلمة علّمها الخضر لموسى عليه السلام،قال:وأنّى بأرضك السلام.

ثم قال له: أنا موسى،فقال الخضر: موسى بني إسرائيل، قال: نعم، ثم سأله أن يعلمه مما علمه الله تبارك وتعالى فكانت كلمة الخضر  إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا  ثم قال له: يا موسى إني على علمٍ من علم الله عز وجل علمنيه إياه لا تعرفه، وأنت على علمٍ من علم الله عز وجل علمك إياه لا أعرفه، لكن موسى عليه السلام لحرصه على هذه الصحبة وعلى هذا العلم.

قال: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا  قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ۝ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا  هو يخبره أنه لن يطيق هذه الصحبة ولن يطيق الصبر على ماسوف يرى من فعال الخضر التي لا يحيط بدرك علمها لكنّه بعدما قال هذه الكلمة مهّد العذر لموسى عليه السلام، ليس هذا لنقصٍ فيه بل لأن الإنسان، أي إنسان بطبيعته لا يستطيع الصبر على مالا يدركه عقله وعلى مالا يهتدي إليه لبّه وفؤاده.

فهاهو الخضر عليه السلام يعلمنا في أول ما يعلم التماس المعاذير للخلق، هو يخبره أن هذا الأمر لا قبل له به؛ رحمةً منه به يقول له لا تعرض نفسك لهذا الأمر لأنه سوف يكون صعباً وشاقاً عليك ليس لنقصٍ فيك ولكن الإنسان إذا لم يحط علماً بحقيقة ما يجري حوله، بخلفيات ما يكون، بخلفيات إتجاهاتٍ يسلكها من يصاحبهم، حينئذٍ قطعاً إنه لن يستطيع أن يصبر على هذا إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ۝وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا

ولذلك إذا أردت لمن يصاحبك أن يصبر وأن يسكن فعليك أن تبيّن له حقائق ما يجري، أن تبيّن له علّة ما تفعل حتى لا تتركه في هذا الحرج وفي هذا الضيق، بل ربما يكون هذا في أمورٍ بعيدةٌ عن الأفهام وبعيدةٌ عن الأذهان.

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكفٌ في مسجده تأتيه صفية بنت حيي رضي الله عنها لتزوره فيخرج معها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوصلها إلى دارها فبينما هو خارج من المسجد مع امرأتهصلى الله عليه وسلم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يمر رجلان من المؤمنين فيسرعان الخطا، رأى الرجل وصاحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع امرأته فأسرعا الخطا لعله يريد أن يخبرها شيئاً، فقالصلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية بنت حيي،فقالا: أوفيك نشكّ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالصلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فأحببت ألا يقذف في قلبيكما شيئاً.

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد عبدٌ عن كل قالةٍ وعن كل مظنّة،واللذين مرّا برسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس تعظيماً وإجلالاً وتقديراً لرسول الله صلى الله عليه وسلموحباً له، لا يتصور منهما أن يظنّا برسول الله صلى الله عليه وسلم ظنّا، لأن هذا الظن السيئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من صاحبٍ أو من غيره ينافي مقام الإيمان والتعظيم والعصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالغة في الرفق والرحمة بأصحابه لا يريد للشيطان أن يكون له أيُّ مدخلٌ وأي وسواس في هذه القلوب النقية الطاهرة، ربما يأتي الشيطان إلى أحدهم فيقول في أُذنه كلمة هو سوف يدافعها ويستعيذ بالله عز وجل منها ولكن ما الحامل على أن أضع هذا الشخص وأضع هذا العبد في هذا الصراع وفي هذا المعترك الصعب، الأمر يزول بكلمة واحدة ليس هناك ضيرٌ من أن أخبره وألقي إليه هذه الكلمة، قال: على رسلكما -متمدوش- إنها صفية بنت حيي، قالا: أوفيك نشك يا رسول الله، قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم-أي إنسان أي إنسان حتى لو كان صحابيا- مجرى الدم فأحببت ألا يقذف في قلبيكما شيئا.

إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ۝وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين

هي قصةٌ عظيمةٌ وعبرٌ كثيرة لا يأتي عليها العد والحصر، ولا نطيق في مقامنا هذا في مرة أو مرتين أن نأتي على عبرها وفوائدها، لكننا نحتاج أن نقف وقفة واحدة مع هذه الأحداث التي رأها موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام.

إننا نتلمس فيها أمراً واحداً نحتاجه أشد ما يكون الاحتياج؛ أن الله عز وجل يصنع الخير دائماً، أن الله عز وجل لايقدر لعبده المؤمن إلا كل خيرٍ ورحمة وفضلٍ وبرّ، وأن وراء هذه الأحداث وهذه الوقائع التي نشاهدها بأعيننا في أحيانٍ كثيرة، يكون وراء هذه الوقائع أسرارٌ لأقدار، حكمٌ إلهية لا يطلع عليها الإنسان، قال الله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

إن الدرس العظيم الذي عاد به موسى عليه السلام إلى صحرائه التي كان فيها هو درس الرضا والتسليم،آخر درسٍ كان موسى عليه السلام في حاجة إليه في هذه المحنة التي كان فيها، إن هذه المعاناة التي كان موسى عليه السلام يعانيها مع هذا الشعب العجيب، ومع هذه الأمة التي لا تفتؤ تعصي ربها وتجحد فضله تبارك وتعالى إنما هو أن وراء هذه الأمور ووراء هذه الأحداث ووراء هذه المجريات حكمٌ عظيمة بالغة ورحمات كثيرة من الله عز وجل لعباده المؤمنين،

لقد أخبرنا الله تبارك وتعالى عن هذه السفينة التي ركبها موسى مع الخضر عليهما السلام، هؤلاء الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم مساكين، هؤلاء لما رأوا الخضر كما جاء في حديث أُبيّ عرفوه وعرفوا صلاحه وفضله فحملوهما معهما بدون أن يأخذا منهما أجرة، كان هذا إحساناً وبرّاً، قال الله تبارك وتعالى هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ وما أن ركبا هذه السفينة حتى جاء عصفورٌ فوقف على حافتها ونقر نقرتين في البحر، فقال الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام: إن علمي وعلمك في علم الله عز وجل كما نقر هذا العصفور في هذا البحر.

نسبة علم العبد الذي هو موسى ليس نحن، الذي هو موسى الذي علمه الله تبارك وتعالى إلى علم الله تبارك وتعالى كهذه النقرة وهذه القطرة من الماء الذي أخذها هذا العصفور من هذا البحر الخضم الذي لا يدرك قعره.

ثم نزع اللوح من هذه السفينة، وحينئذٍ كان غضب موسى عليه السلام كيف نقابل إحسان هؤلاء الناس بالإساءة لكن الخضر حينما قصّ عليه وأخبره،

قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا كان هذا النزع لهذا اللوح من هذه السفينة الذي عدّه موسى عليه السلام من أكبر الإساءة هو هو نفسه هذا النزع كان في حقيقته هو غاية الإحسان لكنه اختلاف النظر، نظرة موسى ونظرة الخضر، قال موسى أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا هو خرقها نعم ولكن ليس لهذه العلّة، لم يخرقها موسى عليه السلام لكي يغرق أهلها إنما استنكر موسى على الخضر أن يخرق السفينة ليس لذات الخرق وإنما للغاية والعلّة من ورائه وهي أن يغرق هؤلاء الناس اللذين أحسنوا إليه، فأخبره أنه في أول ميناء ترسو عليه هذه السفينة التي هي لهؤلاء المساكين يكون الملك الظالم الغاشم الذي يؤمم ويستولي على كل سفينة يراها صالحة لا عيب فيها، فإنما أعيب هذه السفينة وأحدث فيها النقص لكي تنجو تأمن وتسلم،

ثم كان قتل الغلام وموته، هو مصيبةٌ لا شك في ذلك لكن الخضر يعلم موسى عليه السلام من العلم الذي علمه الله عز وجل إياه وهو علم أقدار الله تبارك وتعالى وما تنطوي عليه من الحكمة والرحمة، أن هذا الغلام في علم الله لو شبّ شبّ كافرا، وأن قلب الأب وقلب الأم مفطور على الحب وعلى التعلق بهذا الصبي وبهذا الوليد الذي يشبُ ويكبر كافرا، فحبهما إياه سوف يحملهما على أن يخرجا من دينهما ومن إيمانهما بربهما تبارك وتعالى والرب سبحانه وتعالى رحيمٌ ودود، هو لا يريد أن يعرض هذا الأب وهذه الأم إلى هذه المحنة وإلى هذه الفتنة، هو يريد سبحانه وتعالى أن يحفظهما من هذا الاختبار الصعب فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا يرهقهما فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۝فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا.

الله عز وجل رحيمٌ ودود هو لم يسلب هذين الأبوين الرقيقين الرحيمين المؤمنين هذا الغلام ثم يتركهما هكذا، وإنما سوف يعوضهما تبارك وتعالى في قريب عاجل ربما لا نراه نحن في هذه اللحظة التي لا نرى فيها إلا الشدّة والمصيبة سوف يعوضهما الله عز وجل في قريب عاجل عن هذا الذي يبدو مصيبة وهو في حقيقته نعمة ومنّة يبدلهما ربهما بوليد آخر خيرٌ منه زكاةً وأقرب رحما،

كانت هذه رحمة الله عز وجل بالأبوين ورحمة الله عز وجل بهذا الغلام أيضاً الذي قبض قبل أن يكلف ليبقى على أصل عهد فطرته لأنه إذا امتد به الزمان سلك مسلك الكفر والطغيان فأورد نفسه وأبويه موراد الهلكة وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ

وخاتمة تلك الأحداث هي حادثة الجدار،، هؤلاء قومٌ لئام رفضوا أن يقرون قرى الضيف ونحن نقيم لهم جداراً مائلا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ الجدار نفسه وصل إلى حالٍ من التهاوي وحالٍ من الضعف حتى إن الجدار نفسه لا يستطيع أن يقيم عوده، هو يريد أن ينقضّ لكي يستريح قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا أَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا حفظ الله عز وجل لهذين اليتمين إنما كان رحمةً من الله عز وجل ونعمةً وفضلاً على هذا لأب الذي قد ولى وترك هذه الحياة وترك وراءه هذين الصبيين الصغيرين في كلاءة الله عز وجل وحفظه وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ليس شيئاً آخر  وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا

وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي هذا الجدار سوف يأتي يوماً ينهار فيه ويخرج الكنز الذي كان سرّاً بين الله عز وجل وبين هذا الأب الصالح لا يعلم عنه ولا عن مكانه أحدٌ إلا الله تبارك وتعالى وحده، إذا سقط هذا الجدار اليوم وسط هؤلاء القوم اللئام بقي هذين اليتيمين الضعيفين لا يملكان حولاً ولا طولاً ولا حفظاً لهذا الحق الذي تركه لهما الأب، فكل شيءٍ في قدر الله عز وجل له وقته وله أوانه،هذا الكنز وهذه النعمة إذا لم يكن أهلها قادرون على أن يحفظوها وعلى أن يحموها وعلى أن ينتفعوا بها فسقطت في أيدي اللئام كان من الحق المستحق ومن النعمة الإلهية أن يتأخر سقوط هذا الجدار، أو سقوط هذا النظام أو أي شيءٍ من هذه الأشياء حتى يأتي اليوم أو يأتي الوقت الذي يستطيع فيه هذا اليتيم الذي هو صاحب الحق وليس غيره يستطيع هذا اليتيم الذي هو صاحب الحق أن يحفظ على نفسه حقه لأنه إذا وقع الجدار اليوم تمالأ هؤلاء اللئام جميعاً على هذا الحق فضاع إلى الأبد لن يعود مرة أخرى، ولكن في قدر الله عز وجل وفي حكمته وعلمه أن يرسل هذا الرجل لكي يرفع ويقيم هذا البنيان إلى أجل محدود، كما في هذه الصورة أيضاً قال ذو القرنين لما بنى سدّاً وردماً يمنع هؤلاء الفجرة من أن يبطشوا بعباد الله عز وجل الضعفاء المساكين قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا سوف يسقط هذا الردم ويسقط هذا السدّ أيضاً في الأجل الذي قدّره الله عز وجل.

فالله عز وجل لا يتّهم في مقاديره، وراء ما نرى من أشياء، وراء الحجب التي لا نراها أشياء في علم الله عز وجل وفي تقديره لعباده المؤمنين ولكن في تقديره لعباده المؤمنين وفقط اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ

الله عز وجل يجعل المؤمنين والصالحين في ولايته، الله عز وجل هو وليُّ أمرهم الذي يتولى أمرهم ويقوم بشأنهم، ونحن ليس بيننا وبين أن ندخل في حفظ الله عز وجل وحمايته وولايته إلا أن نحقق شرطه الذي اشترطه الله عز وجل علينا إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ

فكان الدرس الذي علّمنا إياه الخضر عليه السلام أن نوقن بحكمة ربنا، نوقن برحمة ربنا تبارك وتعالى، لا نتهم ربنا عز وجل في مقاديره، وأن نسلم وأن نرضى عن ربنا، وعما يقدّر ربنا تبارك وتعالى وأن نسلم له عز وجل في كل قولٍ وفعل.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلأ وارزقنا اجتنابه.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا

ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدا ما أبقيتنا وأجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا ولا تجعل النار مصيرنا وأجل الجنة هي دارنا

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.