إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد:
نستتم اليوم الكلام عن الأمنة والأمان، مضى لنا جمع نتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كصمام للأمن والأمان لأصحابه وأمته، واستعرضنا في سبيل ذلك بعض المواقف التي يظهر فيها للناظرين كيف كان وجوده صلى الله عليه وسلم وكيف كانت حياطته، وكيف كانت إدارته وأثرها في درء الفتن وتأليف قلوب المؤمنين ودفع الشرور عنهم.
ونحن اليوم نختتم الكلام على هذه المسألة ونصل إلى نهاية الرحلة النبوية، مع هؤلاء الصحب من أهل الأرض لينتقل صلى الله عليه وسلم إلى حيث شاء وإلى حيث أراد حيث قال في آخر ما قال ” بل الرفيق الأعلى “
قال الله تبارك وتعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ وآب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، وقد قتح الله عز وجل عليه وأعطاه من المال من كل صنوفه ما أعطاه فجعل صلى الله عليه وسلم يقسم فيما هاهنا وفيما هاهنا ويعطي العطايا الكثيرة، ويمنح المنح والهبات الجزيلة على عادته صلى الله عليه وسلم إذ كان أجود بالخير من الريح المرسلة.
يقول أبو سعيد رضي الله عنه – وقد ذكرنا هذه القصة قبل – أنه صلى الله عليه وسلم لما أعطى ما أعطى مما أفاء الله عز وجل عليه أعطى الأعطيات الكثيرة في عدد من زعماء قريش، وأعطى كذلك جمعاً من زعماء قبائل العرب ممن لم يدخل أكثرهم في الإسلام، وأما أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينلهم من هذا المال قليلٌ ولا كثير إلا رجلين شديدي الفقر أعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ فوجد القوم في أنفسهم أن حجبهم صلى الله عليه وسلم وحرمهم، وأعطى قوماً ربما لا يبلغون منزلتهم ولا فضلهم ولا سابقتهم في قبيل ولا في دبير.
فأتى سعد بن عبادة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عن الحال وعن الأمر، قال: يا رسول الله إنك قد أعطيت عطايا كبيرة ومالاً جزيلاً مما أفاء الله عز وجل عليك في أهل مكة وفي زعماء قبائل العرب ولم تعط هؤلاء القوم من الأنصار من هذا المال شيئاً وقد وجد القوم في أنفسهم حتى قال قائلهم قد لقي والله رسول الله قومه صلى الله عليه وسلم.
ما معنى ” لقي والله رسول الله قومه ” ما قصدهم بهذا التعبير، مثلما نقول نحن ” من لقى أحبابه نسي أصحابه ” يعني هو الآن عاد إلى قومه وعشيرته، فجعل هؤلاء القوم الذين ناصروه وراءه ظهريّاً.
إذاً القضية لم تكن مالاً، لم يكن الحزن أو المشكلة في المال، وإنما أن هذه علامة على المحبة أو على التقدير ” لقي والله رسول الله قومه ” فنحن رجعنا إلى الوراء.
مثلما أن يفعل شخص أعمال جزيلة ومن المفترض في وفق قواعد المنظومة الإدارية ينال عليه مكافأة، فيعطى أناس مكافآت، لا يستحقون هذا العمل لأنهم لم يشاركوا فيه أو ربما شخص مضى إمضاء، مدير ومضى إمضاء، أما الناس الذين اشغلوا فعلاً لم تأخذ شيء، فهم يحزنوا، وليس دائماً تكون المشكلة من أجل المال وإنما هذا علامة على ضعف أو قلّة التقدير.
فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل سعد، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد، – ما رأيك أنت؟ – قال: يا رسول الله ما أنا إلا رجلٌ من قومي، قال صلى الله عليه وسلم: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.
فهو الآن كيف يسير الموقف؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من حنين معه مما أفاء الله عليه مالاً كثيراً فجعل يعطي هذا المال لمن يرجو إسلامه وإيمانه وإقباله على الله تبارك وتعالى، إذاً إلى أين ينظر النبي صلى الله عليه وسلم؟ ينظر إلى وجهة معيّنة، ويفترض في أحبابه وفي أصحابه أنهم يرون من الأمر مثلما يرى، لكنه وجد أنهم لا يرون الأمر كما يراه صلى الله عليه وسلم، وهذا من أصعب الأمور أن يكون الناس التي هي أقرب الناس إليك هم أكثر الناس فهماً لك، يأتوا في موقف معيّن لا يكونون على نفس مستوى التوقع الذي تتوقّعه منهم، فهو سأل سعد عن نفسه، – ماذا ترى أنت؟ – لم يستطع أن يقول تأدّباً وإجلالاً لرسول الله أنه يرى هذا، وفي نفس الوقت هو عنده من الصراحة ومن الوضوح ما يجعله لن يقول شيء خلاف ما يرى، فقال: يا رسول الله ما أنا إلا رجلٌ من قومي، يعني ضمنيّاً أنا أيضاً في نفسي شيء مما في نفوس هؤلاء وهذا أعلى مستوى من العظمة والرقي والتأدّب، فهو وصّل المعنى الذي يريده أن يصل وبدون أن يقول أي كلام يدلّ على نوع من أنواع الاستهجان أو الاستنكار أو الضيق، وهذا يذكّرنا بجملة لا تقلّ عظمة عن هذه الجملة
العبّاس بن عبدالمطلب رضي الله عنه، عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا قال؟ قال: هو أكبر وأنا ولدت قبله.
كلمة أكبر هذه تحتمل الأكبر في السنّ وتحتمل الأكبر في المكانة وفي المقام، لم يستطع أن يقول أنا أكبر منه، قال: هو أكبر أي هو أجلّ وأعظم وأنا ولدت قبله؛ يقصد أسنّ، لغةً: حينما تستخدم تعبير أسنّ، فأسنّ هذه أكبر في السن، لكن أكبر تطلق على الشيء المادي وعلى الشيء المعنوي، فهو قال: هو أكبر وقد ولدت قبله صلى الله عليه وسلم.
فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: اجمع لي قومك في هذه الحظيرة، – نحن نطلق الحظيرة على مكان معيشة الحيوانات ” الزريبة ” – الحظيرة لغةً: هو المكان الذي تجعل فيه ما تريد أن تحافظ عليه وأن حميه، وتحظر عنه ما لا تريد أن يختلط به، ولذلك هي حظيرة المواشي، لماذا تُسمى حظيرة، لأن الشخص يحافظ بها أو يحمي أو يؤمّن ماشيته، ويحظر عن الماشية ما ليست ملكه أو ما يملكه غيره أن تدخل بداخل هذه الحظيرة.
ولذلك مرة غضب أحد الحاضرين لقولي حظيرة الإسلام ” هو احنا بقر ” فهي ليس لها علاقة، فالحظيرة هذه هي المكان الذي يحتمي به من بداخله ويحظر أن يدخل فيه ما ليس منه، ولذلك أحياناً تكون المعاني الدارجة أو العرفية أو الاصطلاحية غالبة علينا بحيث أننا ننسى أصل المعنى اللغوي فيحدث مشكلة، فأصبح غير فاهم للكلمة لأن لها معنى في ذهني غير المعنى الأصلي الذي ينبغي أن تكون عليه.
فقال له اجمعهم في مكان لا يجتمع فيه إلا الأنصار، هو يريد الأنصار فقط ولا يريد أن يدخل معهم غيرهم.
فسيدنا سعد جمع الأنصار فأتى جمع من المهاجرين فأذن لهم وأتى آخرون فردّهم، – سمح لبعض الناس وردّ بعضهم –
فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء ثم بدأ يخاطبهم فحمد الله وأثنى عليه؛ ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم – الكلام الذي قلتموه – واجدة – زعل – واجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم، أنا سمعت كلام أنتم قلتموه و- زعل – موجود بداخلكم.
ثم قال لهم ألم تكونوا ضلّالاً فهداكم الله بي، وعالة – فقراء – فأغناكم الله بي، وأعداءً فألّف الله بي بين قلوبكم، فقالوا: الله ورسوله أمنّ وأفضل، ما معنى أمنّ وأفضل؟ أي: مننهم وفضلهم أعلى من هذا بكثير، يعني لسنا فقط معترفين بهذا الفضل لا، هذا الفضل لا نحصيه ولا نطيق عدّه، فهو أكثر من هذا بكثير.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار – أنتم لن تردوا يعني – قالوا: بماذا نجيب يا رسول الله؛ لله ورسوله المنّ والفضل.
فقال صلى الله عليه وسلم: لو شئتم لقلتم؛ فلصدقتم وصدّقتم، فلصدقتم أي ستقولوا الحقيقة، ولصدقتم أي أقرّ لكم بما تقولون.
تقولون: جئتنا مكذّباً فصدّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك – أي أعطيناك من أموالنا – .
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر ما امتنّ الله عز وجل عليهم بقدمه إليه قال ثلاث أشياء، ولما عدد فضلهم هم عليه قال أربعة أشياء، فجعل فضلهم عليه في العدد والتعداد يربو ويعظم على ما امتنّ به عليهم وذكّرهم به ثم قال لهم: أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم، – وسنجد النبي صلى الله عليه وسلم في كل جملة يذكر كلمة الأنصار، فهو يريد أن يذكّر بشيء معيّن؛ النصرة هذه عهد بينه وبينهم له مقتضيات معيّنة وله جزاء معيّن، قالوا: ما لنا إن نحن وفينا، قال: لكم الجنة، فهو يذكّرهم أنها ليست هذه هي المطلب الذي نفكّر فيه أو غضب بسببها أيّاً كانت – .
قال: أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من لعاعة من الدنيا – اللعاعة هذه هي آخر شفطة في الكباية، لما حد يجيب لك عصير وتسيب شوية في الآخر، فآخر شفطة ديه هي اللعاعة – فهي شيء حقير ليس له وزن.
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من لعاعة من الدنيا تألّفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم لإسلامكم، يقول لهم أنها ليست شيء تنشغلوا به.
ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير – أنتم تتكلمون على الماعز والجمال… إلخ – وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم.
أنتم لا تدرون كيف كانت القسمة، هؤلاء الناس أخذوا هذه الأشياء، أما أنتم فما قسمكم ونصيبكم؟ هو شخص النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ثم قال: والله لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار.
ما معنى لولا الهجرة؟ أن ثواب الهجرة ثواب عظيم، فلولا هذا الثواب العظيم الذي لا أريد أن أفرّط فيه لجعلت نفسي واحداً من منكم، ” لولا الهجرة لاخترت أكون امرأً من الأنصار “
ولو سلك الناس وادياً وشعباً وسلكت الأنصار وادياً وشعباً لسلكت شعب الأنصار، الناس دثار والأنصار شعار. الشعار: هو اللباس الذي تلبسه ملاصق لبدنك والدثار ما فوقه ” أي الملابس الداخلية شعار والدثار بقية ملابسك ” فالشعار هو الشيء الذي يلامسك ويلاصقك، الأقرب لقلبك من غيرها،.
الناس دثار – شيء خارجي – أما الأنصار فهم أقرب إلى قلبه وإلى فؤاده، ثم قال: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله ورسوله قسماً وحظّاً، رضينا بالله ورسوله قسماً وحظّاً، رضينا بالله ورسوله قسماً وحظّاً ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّقوا.
إذاً هذا الموقف ربما يكون أصعب من أي موقف آخر ذكرناه، لماذا؟ لأن المواقف الآخرى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن طرفاً فيها لكن هنا هو طرف في الأمر بشخصه وذاته صلى الله عليه وسلم – الزعل منه هو – .
الشيء الآخر: أن هذا وقع في النفوس الحبيبة إلى قلبه القريبة إلى فؤاده، فكيف سيعالج هذا الموضوع؟
النبي صلى الله عليه وسلم عالج الموضوع بمجرّد أنه جمعهم وذكّرهم بالتاريخ الذي بينه وبينهم فقط، وذكّرهم بالعهد الذي عاهدوا عليه، ذكّرهم بالصلة الوجدانية التي بينه وبينهم، هؤلاء الناس كان يكفيهم هذه الكلمات.
علام نتحدث هنا؟ نتحدث عن جو نفسي ومشاعر ومحبة ومودّة، الموضوع ليس ماديّاً أبداً، بمجرّد أن ذكّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات عادت قلوبهم إلى ما كانت عليه.
إذاً النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع هذا الكلام من سيدنا سعد لم ينتظر أو يتلكّأ وأسرع بمعالجة الموقف، وكانت المعالجة ليست أكثر من أنه يكلّم هؤلاء بهذه الكلمات ويذكّرهم بأن تصرفه في الأموال هذا لأجل المصلحة وليس دلالة على القرب ولا على المحبة ولا على الود.
يقول عمرو بن تغلب رضي الله عنه: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ومنع آخرين فكأنهم عتبوا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم، وأمنع قوماً أكلهم إلى ما جعل الله عز وجل في قلوبهم من الخير ومن الغنى منهم عمرو بن تغلب.
الذي يحكي هذه القصة هو عمرو بن تغلب، فماذا يقول؟ يقول: والله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم، هذه الكلمة أعظم عندي من أي فلوس كان من الممكن أن يعطيها لي.
هو الآن لم يعطيه، ولكنه قال سبب عدم إعطائه، قال لأنني اعتمدت لعى ما جعل الله في قلب هذا الرجل من خير ومن غنى، فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يبيّن هو على أي أساس يُعطي.
فهل النبي صلى الله عليه وسلم محل ريبة؟ يعني هل هو الآن هو متّهم في قسمته بحيث أننا نظل نقول هل هكذا صحيح، أو هل هكذا خطأ….
طبيعة النفوس البشرية مهما كان ربما يعتريها شيء من هذا وربما يوسوس لها الشيطان، فما هو الحل؟ لكي تقطع هذا الاسترسال مع وساوس الشيطان، هو سينبّه ويوضّح ويبيّن، أنه الآن أعطى أناس لكي هؤلاء الناس ربما قلوبها ضعيفة، وترك أناس لأن هؤلاء الناس قلوبها عامرة بالقناعة وبالغنى وبالإيمان، فلما بيّن لهم الأمر صلى الله عليه وسلم ماذا قالوا؟ قالوا: رضينا بالله ورسول الله قسما وحظّا
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله رب العالمين
يقول صفوان بن أمية: رضيي الله عنه، ونحن ذكرنا الجمعة الماضية أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو رضي الله عنهم كانوا أكثر الناس حرصاً على مقاتلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى آخر رمق، ثم إن صفوان خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسلف منه دروعاً – هو عنده سلاح والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يستلفه منه – فصفوان قال له: أغصباً يا محمد – هل لأنك أصبحت مسيطر ستأخذ السلاح غصبا – قال: لا بل عارية مضمونة.
الأصل في العارية أنها مؤدّاه، العارية: أن شخص استلف من شخص شيء، الأصل أنها مؤدّاه، ما معنى مؤدّاه؟ أي يجب عليّ أن أعيدها، فإذا لم أفسد فيها وحدث لها شيء، فأنا لن أكون مسئولاً عنها، طالما أنني لم أتسبب في إفسادها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا، قال: بل عارية مضمونة، أي إذا حدث لها أي شيء أنا مسئول عنها.
فخرج وفي أول المعركة كانت الدبرة على المسلمين، فقال كندة بن الحنبل – شخص كان خارج معهم وكانوا لازالوا مشركين – قال: ألا بطل السحر اليوم – سحر محمد بطل وتغلّبت عليه هوازن – فقال له صفوان قال: اسكت – أنت بتقول ايه؟ – قال: والله لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن،، يعني هم لن يدخلوا في الدين – سيبك من الدين – الآن رجل من قريش أقرب لنا وأرحم لنا لوجود الرحم بيننا وبينه، من أن يأتي أحد آخر يتغلّب علينا حتى لو لم يكن هناك دين، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطى صفوان مائة من الإبل – دية كاملة – مائة ناقة، وبعد قليل أعطى له مائة أخرى، وبعد قليل أعطى له مائة آخرين؟! ثلاثمائة ناقة متتابعين، مائة ثم مائة ثم مائة.
فهو ماذا يقول؟ يقول: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليّ، فمازال يعطيني حتى إنه والله لأحب الناس إليّ – يعني هو كان ماشي كده – .
إذاً النبي صلى الله عليه وسلم يعالج الضغينة ويزيل الشرور، ويدفع الأحقاد بهذه الأموال ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ هل هذا أمر سهل؟ لا لا لا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
إذاً طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة الناس ومعالجة نفوس الناس كانت بهذه الطريقة، يعطي ويمنح ويعفو ويصفح.
فهو يقول أنه كان أبغض الناس إليه وبعد قليل بهذا العطاء المتكرر، لأنه الآن النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه، وبطبيعة النفوس تميل إلى من أحسن إليها، ولكنه لأجل العداوة القديمة هو لا يريد أن يرقّ قلبه أو يحنّ، فهو يبذل مجهود لكي يمنع نفسه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاه فيقول لنفسه: أنه لن يحبه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعطيه مرة أخرى، فيمانع نفسه ويقول: لا يمكن أن أحبه – شوية شوية شوية شوية – فهو في النهاية مقاومته – وهي مقاومة – هو يقاوم الطبيعة البشرية الطبيعية، فهو يظل يقاوم ويقاوم ويقاوم ولكن في النهاية لن يقدر،، قال: فمازال يعطيني حتى إنه والله لأحب الناس إليّ.
هند بنت عتبة – ونحن حكينا الجمعة الماضية – أنا أبا سفيان عندما رجع قال لقريش أسلموا فإن محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن،، نحن حكينا هذه القصة.
فظهرت هند، وهند هذه زوجته؛ فقالت: قبّحت من طليعة قوم – ايه يا جدع اللي أنت بتقوله ده – ثم قالت: يا أهل مكّة عليكم بالحمّيت الدسم فاقتلوه، – تقول للناس أن يقتلوا زوجها –
الحميت هذا: هو صفيحة السمن، تقصد هذا الشخص المليئ بالشحم اقتلوه،، اليوم التالي، اليوم التالي! اليوم التالي!! تقول هي له: أريد أن أبايع محمداً فخذني إليه، فقال لها – أنت البارحة في منتصف الشارع وبين الناس قلتي هذا الكلام – فماذا قالت له؟ نحن قلنا أن صفوان ما الذي نقله هذه النقلة؟ العطاء والإحسان.
وهند؟؟ قالت كلام غريب جدّاً، قالت: إني والله ما رأيت الله عز وجل عُبد حق عبادته في هذا المسجد إلا في هذه الليلة.
هم دخلوا مكة – النهارده، فجت هي بكرة الصبح، بكرة الصبح – تقول لزوجها أنا أريد أن أبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذني إليه، فهو يقول لها ماذا حدث، قالت: ما رأيت الله عز وجل عُبد حق عبادته في هذا المسجد – عند الكعبة – إلا في هذه الليلة والله ما باتوا إلا مصلّين قياماً وركوعاً وسجودا.
هذا دين يأسر، فهي جلست تراقبهم طوال الليل، هؤلاء الناس طوال الليل تشكر نعمة ربنا سبحانه وتعالى وتصلي قياماً وركوعاً وسجوداً، فهذا دين عظيم.
فهي تقول مكة التي كنت أراها أنها معظّمة، فهي لم تكن عمرها معظّمة، التعظيم الحقيقي إنما رأيته في هذه الليلة ” ما رأيت الله عز وجل عُبد حق عبادته ” انتبه: التوجّه هنا توجّه آخر تماماً، فالقضية لديها أنها رأت أن هؤلاء الناس فعلاً فعلاً على دين، فعلاً على تقوى وإخبات وإيمان.
فهو قال لها :إنك قد فعلت ما فعلت – أي ما فعلته في أحد – قال: فانظري إلى رجل من قومك فليذهب، ابحثي عن أحد من المسلمين من أقاربك فليذهب معك، فلن أستطيع أن أذهب
فذهبت إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فماذا قالت بعدما أسلمت، قالت يا رسول الله: والله الذي لا إله إلا هو ما كان على هذه الأرض من أهل خباءٍ – الخباء: الخيمة – أحبّ إليّ من أن يذلّهم الله من أهل خبائك، ثم أصبحت اليوم – خلي بالك ده من البارحة لليوم – ثم أصبحت اليوم وما من أهل خباءٍ أحب إليّ من أن يعزّهم الله من أهل خبائك.
فقال صلى الله عليه وسلم: وأيضاً والذي نفسي بيده، قال تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
إذاً آخر موقف تكلمنا عليه الآن، من أواخر المواقف في رحلته صلى الله عليه وسلم التي كان يمثّل بها الحفظ والأمان والرعاية، ثم؟
النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر لحظة يحب أن يطمئن على المؤمنين لأنه ربنا أخبره بأشياء ستحدث.
النبي صلى الله عليه وسلم صعد مرة على أطم من آطام المدينة – مثل القلعة أو الحصن – ونظر إلى المدينة – ينظر لها من الأعلى – قال: أترون الذي أرى؛ إني أرى الفتن تنزل من بين بيوتكم كمواقع القطر – أنا شايف الفتن جاية – .
وذكرنا قبل هذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى البقيع، قال: هنيئاً لكم ما أنتم فيه – قبل وفاته مباشرةً – مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها، النبي صلى الله عليه وسلم ذهب يصلي على أهل أحد – شهداء أحد – قبل وفاته بفترة وجيزة جدّاً كالمودّع للأموات والأحياء – يقول عقبة بن عامر – ثم صعد على المنبر – آخر مرة يصعد على المنبر – قال إني فرطتكم على الحوض – أنا سأسبقكم عند ربنا – وإني لا أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك الذين من قبلكم، وذكرنا قبل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ماذا كان يقول؟ ” فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقون ربكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضلّالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلّالاً يضرب بعضكم رقاب بعض “
النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بقليل: تقول عائشة رضي الله عنها – وكان عندها صداع – قالت: وا رأساه، فالنبي صلى الله عليه وسلم ماذا قال؟ ما ضرّك أن متّ قبلي فاستغفرت لك ودعوت لك.
فهي رأسها تؤلمها…. والنبي صلى الله عليه وسلم في أي وضع؟ النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بقليل وهو يعلم أنه راحل، فهي تقول رأسي تؤلمني، فهو يقول لها: لو تعجّلتي قبلي ربما أصلح لك؛ أستغفر لك وأدعو لك، فهي ماذا قالت.
قالت: واثكلاه – أنت ما بتصدّق عاوزني أموت، هو في دنيا وهي في دنيا تاني خالص – والله لقد علمت أنك تحب موتي، وإني لظننت أنني إذا مت لوجدتك في آخر اليوم معرساً ببعض زوجاتك، – آه أنت ما هتصدق إني موت فهتكسر ورايا قله –
فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل أنا والله يا عائشة وا رأساه، – أنا متعب فعلاً – والله لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكرٍ وابنه – عبدالرحمن – فأعهد – أي أكتب كتابا لأبي بكر – لئلا يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ولكني قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون.
يعني ربنا سبحانه وتعالى سيسيّر الأمور إلى حيث يحب وإلى حيث يريد، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما الذي يشغله الآن؟ ماذا سيفعلون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ماذا سيفعل الناس؟ هل ستبقى مجتمعة متآلفة أم ستتفرق.
النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر أن يخرج للصلاة قال: مروا من يصلي بالناس – خلوا حد يصلي – فخرج عبدالله فرأى سيدنا عمر، وسيدنا أبو بكر لم يكن موجود، وصوته عالي، فالنبي صلى الله عليه وسلم سمع تكبيره – تكيبرة سيدنا عمر – وكان رجلاً مجهراً أي صوته عالي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: أصوت عمر، قالوا: نعم، قال: فأين أبوبكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، لا يصلح أن يتقدّم أحد على سيدنا أبوبكر، لماذا كل هذا؟ لأنه يريد أن يحافظ عليهم ولا يتفرّقوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
آخر شيء: هم يصلون صلاة الفجر يوم الاثنين الذي توفي في آخره في عصره،، ففي فجر ذلك اليوم، فالنيب صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة رضي الله عنها ووقف على باب الحجرة، وهم كانوا يصلون وسيدنا أبوبكر يصلي بهم.
فلما رآهم صلى الله عليه وسلم وهم مجتمعون في صلاتهم تبسّم يضحك صلى الله عليه وسلم، فنكص أبوبكر – رجع إلى الوراء، هو كان يصلي فظنّ أن النبي صلى الله عليه وسلم سيخرج ويكمل الصلاة بهم، فرجع إلى الوراء – .
يقول أنس: وكاد الناس يفتنون في صلاتهم فرحاً برسول الله – من فرحتهم بظهوره كانوا سيخرجون من الصلاة ليسلّموا عليه –
فالنبي صلى الله عليه وسلم ماذا فعل؟ أشار إليهم أن أتمّوا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر، فكان ذلك آخر ما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فماذا آخر مشهد النبي رآه النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما المشهد الذي سرّ النبي صلى الله عليه وسلم؟ أنهم مجتمعين على عبادة ربهم تبارك وتعالى خلف من ارتضاه صلى الله عليه وسلم للإمامة والخلافة بعده.
إذاً هذه الصورة التي يحبها، هذه الصورة التي يريدها، هذه الصورة هي التي تطمئنه أن يراها، هذا آخر شيء، ثم ثقل صلى الله عليه وسلم واشتدّ به الكرب وتغشّاه.
فقالت فطمة: وا كرب أباه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، أي انتهت وزالت الكربات، وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى حيث أحب، فلما انتقل ” أنا أمنةً لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون “
اللهم اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ماتحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، متعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا، أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، ولا تجعل اللهم إلى النار مصيرنا، واجعل اللهم الجنة هي دارنا
اللهم إنّا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب علينا وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عملٍ يقربنا إلى حبك
اللهم يا مقلّب القلوب ثبت قلوبنا على دينك
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم