الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم أما بعد:
نبدأ حديثنا باستحضار حقيقة هذه العبادة التي نشرع الآن فيها، لقد تكلّمنا منذ فترة طويلة نسبياً عن خطبة الجمعة ومكانتها في الإسلام وعن قيمتها وعن حثّ ربنا سبحانه وتعالى لعباده على أن يسارعوا إليها، فهذه الموعظة هي الموعظة الوحيدة التي أوجب الله سبحانه وتعالى على العباد أن يسارعوا إليها وأن يصغوا إليها وأن ينصتوا بأسماعهم وقلوبهم إليها.
الشعيرة العظمى التي هي شعيرة الإسلام ” صلاة العيد ” يلزم العبادة فيها أن يقيموا هاتين الركعتين، أما الخطبة والعظة التي تكون في أعقاب ذلك فهي في دائرة الاستحباب وليست في دائرة الإلزام فإذا غادر المرء هذا المصلى من دون أن ينصت إلى هذه الخطبة فإنه لا إثم عليه، أما هذه الموعظة وهذه الكلمات فقد قال الله تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فأوجب سبحانه وتعالى علينا حين نسمع النداء لهذه العبادة أن نترك ما بين أيدينا من مشاغل وأن نهرع إلى بيوت الله تبارك وتعالى وقد ذكرنا قبل مراراً أن قول الله تبارك وتعالى ” فاسعوا ” معنى ينبغي ألا نغفل عنه لأن حقيقة السعي هو الإسراع في الحركة والمشي، وقد ذكرنا أن هذا يقينا غير مراد، فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد أوصانا وحثنا إذا سمعنا النداء أن نأتي وعلينا السكينة ونهانا عن الإسراع، إذاً ليس المراد إسراعاً في حركة الأقدام، فلماذا اختار ربنا سبحانه وتعالى تعبير السعي ولم يذكر المشي، مع أنه فعلياً هذا هو الذي سنمارسه أو نفعله.
إذاً السعي هذا المقصود به حركة وجدانية قلبية، همّ الإنسان يهمّ به في قلبه ووجدانه تعلّقاً منه بهذه العبادة وبهذه الشعيرة.
وَذَرُوا الْبَيْعَ هو كل ما يشغل عن المسارعة وإن كان فيه نوع نفعٍ ومصلحة، لأن البيع هذا تنبيه على ما هو أقل منه، البيع والتجارة شيء فيه مصلحة للإنسان وربنا قد أباحها، يكتسب بها الإنسان ما يعفّه عن سؤال الناس وما يكسبه قوّة وما يكسب دينه أيضاً قوةً ومنعة.
فإذا كان ذلك، فغيره من أبواب اللهو أو الغفلة أولى ثم أولى… إذاً هذه الكلمات هي ركنٌ في هذه العبادة فلماذا؟
إذاً نحن نحتاج إلى حد أدنة من العظة كل أسبوع هذا هو الحد الأدنى الذي لا ينبغي أننا ننزل عنه، مثلما جعلت الصلوات الخمس الحد الأدنى لاستقامة القلب على السكينة والهدوء والطمأنينة في أثناء اليوم الذي يعاني فيه العبد ما يعاني من مشاق ومن كبد ومن معاناة مع الناس، فهذا الشيء موجود على هذه الأوقات بتقدير من الحكيم العليم سبحانه وتعالى لأنها تؤدي وظيفة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان حينما يأتي وقت الأذان فيدعو بلالاً للأذان فيقول ” أرحنا بالصلاة ” إذاً كلمة أرحنا هذه، الصلاة لها وظيفة، وستؤدي دوراً، أنا تعبان، فالصلاة ستنقلني من دائرة التعب والكبد والمشقة والشقاء إلى دائرة الراحة والهدوء والسكينة والطمأنينة.
إذاً هذه الكلمات لها وظيفة ولها دور، من المفترض أنها تنقل الملقي والمتلقي من حال إلى حال، أو تردهم من غفلة قد اعترتهم إلى عظة وتذكرة تعيد تنبيههم وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فنحن نستعيد شيء كان موجود عندنا، أو نبني شيء نحن محتاجين أن نبنيه، وهذا ما نتحدث عليه بشكل دائم، كل شيء ربنا سبحانه وتعالى قدّرها أو أمر بها يوجد من ورائها حكمة بالغة، إذا لم ننتهي من وراء هذه الظواهر إلى الحكم والمقاصد ونحققها، فنكون ما فعلنا شيء، فنحن لا نأتي لكي نضيّع وقت، حاشا لله سبحانه وتعالى أن يشق على عباده بشيء ليس من ورائه مصلحة أو منفعة، لا نحن نأتي إلى هنا لكي ربنا سبحانه وتعالى يغمرنا بفضله ونعمته ورحمته، فنحن لابد أن نستشعر هذا الكلام وندرك حكم ربنا سبحانه وتعالى وراء ما يأمر به، ووراء ما ينهى عنه لكي نحقق الانتفاع، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال، وذكرنا هذا كثيراً ولا نمّل من ذكره ” من يرد الله به خيراً ” ما العلامة؟ ” يفقهه في الدين ” قلنا معناها أن يفهم، يفهم مراد ربنا سبحانه وتعالى من أوامره ونواهيه، حكمته في أفعاله، حكمته في تشريعه، وحكمته في أقداره سبحانه وتعالى.
وقد ذكرنا أيضاً قبل أنواع أو أشكال العرض التي تقدّم في هذا المجال، ونحن ذكرنا في الخطبة الماضية كلاماً عن أمثال الشعراوي والغزالي رحمهم الله، أو هذا الصنف من الناس أنا لا أقصد تعيين أسماء بعينها وإنما صورة، لأناس لها صفات معينة، هي أهل في الحقيقة لأن تجتذب العباد إلى ربهم، أن تعيدهم إلى الثقة والطمأنينة في دينهم، وأن غياب مثل هؤلاء الناس ثم لا يخلفهم مثلهم أن هذا خطر وأي خطر، قال صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه في صحيح البخاري قال ” إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد وإنما يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبقي عالماً اتّخذ الناس رؤساء جهّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا “
وظيفة هذه الخطبة أنها من المفترض أنها تبني شيئاً، ولذلك ذكرنا قبل هذا ونحن نتكلم أيضاً عن الخطبة؛ أنواع الخطباء، فقلنا: واحد يخوض وسط المعمعة وآخر يجري ولا تجري معه.
ما معنى ذلك؟ ما هي المعمعة، المعامع لغةً هي المعتركات والمعارك الكبيرة وأوقات الفتن والصراع والتحزّب والانقسام وظلم الناس بعضهم لبعض، فنحتاج إلى من يأخذ بأيدينا لمحل النور والثقة واليقين والدرب الآمن، ماذا نفعل لكي نخرج من هذا بسلام، وهذا أصعب هذا، وهذا هو الدور الأساس، ولكن ليس أي أحد مؤهّل أن يقوم بهذا الدور وهنا المشكلة، أن الدين في الحقيقة على قدر كبير من العمق ومن السعة، لكن هل نحن على مستوى أن نفقه عظمة هذا الدين حق الفقه، هذه هي المشكلة، الموقف الصعب.
فــ ” يخوض وسط المعمعة ” ما معناها؟ أي أنه يسلك درب هو مدركه تماماً ويأخذ بأيدي الناس فيخرجهم من هذا الجو إلى جوٍ آخر، أو من الاضطراب إلى الشعور بالسكون، أو من الريب للوصول إلى اليقين وهذا ما نبحث عنه؛ استعادة الثقة في الدين، إدراك عظمة نعمة ربنا علينا به، قيمة الدين الذي أولانا ربنا سبحانه وتعالى إياه، وواجبنا نحن لكي نستطيع أن ننتفع بهذه النعمة وبهذه المنّة.
أما الآخر؛ ” يجري ولا تجير معه ” هو – واحد مذاكر كويس، بس هو بيخش بسرعة ويتكلم – فهو يجري وأنا لا أستطيع أن اتابعه، هو يقول كلام جميل، ولكنني غير قادر على عمل الصلة بيني وبينه، هو يطالبني بأن أتابعه وهو من كثرة إسراعه أنا لا أقدر على متابعته، فهو حسن ولكنني لا أستطيع أن أستفيد منه.
” وثالث لا تشتهي أن تسمعه ” هو لا يقول شيء تجتذب أسماع الحاضرين ومثّلناها عندما كنّا – نتحدث عن ذلك الموضوع – بالأسلوب الموسمي للخطابة؛ أنني في أول السنة أتكلم عن الهجرة، وفي المولد أتكلم عن المولد وفي الإسراء والمعراج أتكلم عنه وقبل رمضان أتكلم ماذا أعددنا لرمضان، وقبل ليلة القدر، وبعد ذلك وماذا بعد رمضان، وفي العيد الأضحى: سيدنا إبراهيم والذبح.
فأنا إذا تابعت مع الخطيب أكثر من سنة أشعر أنني تقريباً أدور في نفس الحلقة، أنه ليس هناك جديد يضاف إليّ، فأنا لا أشتهي أن أنصت أو أصغي إلى ذلك.
” ورابعٌ لا تستحي أن تصفعه ” أي أنه يهزي ويقول كلام ليس له معنى فأنت تريد أن تقوم تصفعه.
فكيف نحن نرفع مستوى الخطبة إلى أن يسامي أو على الأقل يقارب الصورة التي أرادها ربنا سبحانه وتعالى لها، هذا هو السؤال.
النقطة الثانية: نحن في المسار الذي نتكلم عليه إلام نريد أن نصل؟ نحن الآن كنّا نتكلم عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن نريد أن نستعيد إحساسنا بعظمة وقيمة هذه الشخصية واحتياجنا إليها وهذا لن يتمّ إلا من خلال أن نتعرّف عليها وندنو منها ونقرب منها بالصور التي تجعلنا نقدر نتعاطى، نستفيد، ننتفع، نقتدي، مثلما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى، ولكي نفعل ذلك لابد أن ندرك ما معنى النبوة، وما قيمة ومعنى الرسالة، ليس الرسول مجرّد شخص يبلّغ أو ينقل لنا مضمون أو رسالة وفقط، لا الموضوع أكبر من هذا بكثير، الموضوع أكبر من هذا وأعمق بكثير، نحن تكلّمنا عن أن ربنا سبحانه وتعالى جعل النبي صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة لهذه الأمة إلى قيام الساعة.
فهذه الأسوة ما معناها؟ أن كل واحد فينا وكل جيل من أجيال هذه الأمة على اختلاف الأوضاع والظروف السياسية والاقتصادية أو على المستوى الشخصي، اختلاف الظروف النفسية أو الاجتماعية أو التعليمية للناس كلهم، كلهم، رغم كل هذا التباين، كل فرد سيجد في هذا النموذج ما يبحث عنه، حتى أننا ذكرنا أن حتى المحن والمشاكل والابتلاءات والضغوط تجد فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة، التسرية والتسلية، أنه قد أصيب صلى الله عليه وسلم بما هو أشد فالإنسان قلبه يسكن ويطمئن، أن إمامه وحبيبه صلى الله عليه وسلم المقرّب من الله، المصطفى منه سبحانه وتعالى قد أصابه مثل ذلك وبالتالي في حياة شخصية أسرية، وضع اقتصادي، حياة سياسية، علاقات دولية؛ وضع صلى الله عليه وسلم لنا بمنزلة الأسوة والقدوة، فكيف نستطيع نفك هذا، نحن حتى عندما نتعامل مع نصّ أو نسمعه نحن نتعامل معه هكذا كأنه كتلة صخرية – ماشي أهوه نص احنا بنسمعه وخلاص – هذا النص لكي نستفيد منه محتاجين أن نحلله ونفككه لكي نقدر نستخدم مفرداته ونعيشها، هذا هو الذي من المفترض أن نصل إليه، نحاول أن نصل إليه لكي تكون هذه القدوة حقيقة قدوة حقيقية نقدر،، نحن من الممكن أن يوجد في قلوبنا محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن هذه المحبة لابد أن تدخل في دائرة التفعيل فماذا نفعل، لأن كثير منّنا لا يكون عارف ما المطلوب، – طيب هو عاوز ده – لأننا قلنا أنه لايوجد أحد لا يحب لنفسه الخير أو لا يحب لنفسه أن تكون في محل أرقى أو تعيش حياة أهنأ أو حياة أسعد وكلنا نؤمن – من المفترض أننا كلنا نؤمن – أنه صلى الله عليه وسلم كان في المحل الأعظم علماً وفهماً وإدراكاً وحالاً وسعادة وسكينة وطمأنينة وهو أكيد – هو اللي كان فاهم الدنيا صح مش حد تاني – فهو من المفترض أنه بالنسبة لنا في هذا المحل، أننا مؤمنين ومقتنعين أنه هو الذي كان – فاهم الدنيا بتتعاش ازاي – فنحن مطلوب مننا أن نفعل ايه؟ ندرك تفاصيل هذه الحياة، تفاصيل إدارة هذه الحياة وبالتالي نتعامل معها على مقتضى الإيمان والحب والتسليم والاقتداء فنحن لكي نفعل هذا لابد أن نفككه ونتتبعه جزئية جزئية، لأن هذا بحر واسع إذا دخلنا كلنا في غمراته مرة واحدة، سنغرق كلنا، فنكون على الشاطئ وندخل – سنه سنه – نأخذ حاجة ونحاول أن نعيش معها، فننتقل من درجة إلى درجة.
لكن من المشاكل التي نواجهها؛ حالة من حالات الزهد، ما معنى الزهد؟ كلمة الزهد أن الشخص يستقل قيمة شيء أو ينصرف بقلبه عن الشيء، والعلماء دائماً كانوا يتحدثون عن الزهد في الباب الطبيعي الذي يسموه الزهد في الدنيا، ام معنى الزهد في الدنيا؟ أن الإنسان لا يستغرق في ملذّاتها وشهواتها لماذا؟ لأنه يرى هناك ما هو أرقى أو ما هو أعلى أو ما هو أدنى فهو بذلك يؤثر الأدنى على الأعلى وإن كان في الحقيقة كلمة الزهد هذه محتاجين أن نفكّر فيها، لماذا؟ كلمة الزهد من المفترض أن الإنسان يترك شيء ذات قيمة، لكن ما تعلّمناه من القرآن ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها حقيقةً – مش أوي كده – النبي صلى الله عليه وسلم قال ” إن الدنيا ” على بعضها هكذا ” لا تزن عند الله جناح بعوضة ” كلها هكذا على بعضها ” ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ” لأنها لا تستحق
النبي صلى الله عليه وسلم مرّ في السوق يوماً والناس كنفه – أي يمشون على يمينه وعلى شماله – فرأى جدياً أسك ميت، – جدي ميت – أسك يعني أذنه مقطوعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل السوق والناس معه ورأى هذا الجدي فماذا فعل؟ كيف يغتنم صلى الله عليه وسلم كل فرصةلكي يعلّمنا أو يفهّمنا أو يذكّرنا – فقام شده من وده اللي هي مقطوعة ديه ورفعه – قال ” أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم؟، قالوا: يا رسول الله: لو كان حيّاً كان عيباً فيه أنه أسك ” يعني أن هذا أصلاً أذنه مقطوعة إذا كان حي ويباع لن نشتريه ” فكيف وهو ميت، فقال صلى الله عليه وسلم: للدنيا أهون على الله من هذا عليكم “
إذاً إذا كان الشيء قيمته هكذا، أنا أستطيع أن أقول إذا كنت تقللت أو ترفّعت قليلاً أكون زاهد، لا حقيقةً، حقيقةً هي حاجة ليست ذات قيمة بهذا الميزان، ولذلك الزهد هو ألصق بباب اليقين منه بباب الزهد، يعني لو أنا موقن بهذه الكلمات سأشعر أنه من الغبن والخسارة أنني أترك الآخرة لأجل هذا الذي وصف بهذا الوصف وإنما الزهد هذا عبارة عن ايه؟ ممارسة، إذاً الزهد هذا عبارة عن يقين في القلب سيترتب عليه ممارسة فيها قدر من الترفع، لكن أين الحقيقة؟ الحقيقة هي اليقين، مسألة مقدار إيمان الإنسان بهذه الحقائق، مقدار ثقة الإنسان في الوحي، مقدار يقين الإنسان في مصداقيته صلى الله عليه وسلم فيما يخبر وفيما يقول وفيما ينصح فيما يوجّه.
عنصر آخر غاية في الأهمية، قضية الصفة الشخصية الغالبة؛ الرحمة، يعني ما الذي يجعلنا نَحِنُّ إلى هذا الشخص الأعظم؛ الحقيقة هي إحساسنا بأنه انطوى قلبه على قدر عظيم من المحبة لنا، ومن الحرص علينا، ومن الشفقة والرحمة البالغة، هذه هي أكثر شيء مؤثر، وهذا شيء وجداني شعوري إذا بهُت عندنا، لو ضعُف احساسنا بهذه المعاني، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى كان كثيراً ما يشدد ويؤكد على هذا المعنى، فهو سبحانه وتعالى في آخر سورة التوبة، وسورة التوبة هذه سورة كلها قتال، سورة كلها تتكلم على القتال والنفاق ومن لا يريدون أن يخرجوا لتبوك، فهذا العراك شكله في ظاهره أنه إلقاء باليد إلى التهلكة، ومن يدفع الناس في هذا الاتجاه يكون قلبه فيه قدر من الشدة قليلاً، وإلا فيخاف عليهم.
ربنا سبحانه وتعالى بعدما ذكر كل هذا آخر شيء ختم به السورة أنه في الحقيقة عكس هذا تماماً لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ يعز عليه جداً أي قدر من المشقة أو العنت نصاب به، يعزّ عليه ويؤلمه جداً أن نعاني بأدنى قدر من المعاناة حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ هو لا يرمي الناس هكذا، بالعكس هو أشد ما يكون حفاظاً عليهم وحرصاً في مواقف كثيرة، ونأخذ مثالاً واحداً.
النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، وربنا سبحانه وتعالى ذكر أن كف أيدي المشركين وردّهم هذه نعمة، قال وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ إذاً فهذا شيء أنت تضطر إليه وليس محبباً بالنسبة لك، ولذلك ربنا جعل من مننه ونعمه أنه هو الذي أذهبهم، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا
فالنبي صلى الله عليه وسلم في الخندق خرج عليهم عمرو بن ود – من أعظم فرسان قريش – وبه بأو وكبر وشدة وطلب المبارزة، ولا يريد أحد أن يخرج، فأراد عليّ أن يبارزه، فقال: يا رسول الله أجيبه، قال: إنه عمرو بن ودّ، – ريّح ريّح – ما معنى إنه عمرو بن ودّ؟، فالرجل مرة أخرى، فسيدنا عليّ يريد أن يخرج، قال له ثانية، قال: إنه عمرو بن ودّ، ثم قال الثالثة قال: إنه عمرو بن ودّ.
فلماذا لا يريده أن يخرج؟، هو الآن إذا خرج إذا قتل الكافر فهي نُصرة للدين، صحيح؟، وأما إذا هو قُتل، أليست هذه شهادة في سبيل الله، درجة من أعلى درجات الإيمان، فليتركه؟، فليذهب؟، لماذا يقول له: إنه عمرو بن ودّ.
فقال علي في الثالثة: وإن كان عمرو بن وُدّ، فالنبي صلى الله عليه وسلم جهزه بيده، وضع عليه درعه بنفسه وأعطاه سيفاً وبقي صلى الله عليه وسلم يرقب الموقف حتى قتله عليّ فكبّر المؤمنون وكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المهم أن هذا مثال هكذا من عرض أمثلة كثيرة على معنى الحب الحقيقي والحرص عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ إذاً الرحمة أصل واللين فرع فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وضعها في قلبك وغمرك بها، كنت ليّناً رقيقاً برّاً ودوداً رؤوفاً فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ لأن هذا الكلام أتى بعد أحد وبعد المشورى التي ترتب عليها ما ترتب، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وتكلمنا قبل هذا على هذه الجزئية وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فظّاً: هذه في التعامل، تعامله شديد، أما غليظ القلب: إحساسه ضعيف، فإذا كان هكذا، لكانوا تركوه ومشوا، سيتركوه ويذهبون تكذيباً؟ لا، وهذه الجملة غاية في الخطورة.
ربنا سبحانه وتعالى عمن يتكلم؟ عن الصحابة؛ أهل الإيمان وأهل التصديق أنهم كانوا من الممكن أن ينفضّوا عن من؟؟ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه رسول الله، يعني هم مدركون أنه الرسول لكنهم لا يطيقون، مدركين أنه الرسول وأن عاقبة انفراطهم من حوله ستكون الهلاك، لأن لو انفضّ الأصحاب من حول نبيهم هلكوا في الدنيا وفي الأخرى، لن يستطيعوا أيضاً، لماذا؟ لأن هذا الأسلوب من التعامل وهذه القسوة في القلب لا يملك أحد أن يطيق معها صحبةً أو اتّصالاً.
ولذلك أنا أذكر من فترة؛ كنت أتّصل بواحد من المحترمين الفضلاء الذين لهم في قلبي محبة، وأنا أتصل به كان التليفون عليه كول تون.
أول هذا الكول تون ده ” قلبك حنين يا نبي ومفيش أمان على كوكبي ” هذه الجملة لا أستطيع أن أقول هي إلى أي مدى وجعتني، أنا سمعتها فلم أستطع أن أحرك التليفون من على أذني، الجملة فعلاً عميقة ومؤثرة، فعلاً تبلغ إلى الأعماق.
أنه هو القلب المتّسم بالحنان فعلاً، هذا الالتفاف وهذا الحب العظيم كان سببه في الأساس الحنان، وفي نفس الوقت أننا لا نشعر في هذه الحياة بالأمان حقيقةً، أننا أشد ما نكون حاجة إلى هذا القلب الذي يتّسم بالحنان في عالم هذه المعاني أصبحت صعبة فيه جدّاً جدّاً جدّاً.
ولذلك أنا عنونت الخطبة ” إليك رسول الله ” نحن نريد أن نرجع نتناول شيء من هذه الرحمة ومن هذا الحنان حتى لو الشخص غير موجود، نعم
كلماته وأوصافه وأحواله ومواقفه لازالت حيّةً بارزة نستطيع نحن أن نستحييها، هذه هي الفكرة أن نحوّلها من كلمات إلى حياة، نستطيع أن نفعل هذا
ولذلك عندما تسمع السيدة عائشة وهي تذكر أبيات للبيد، لبيد شاعر من شعراء الجاهلية المشهورين وله معلقة، أدركه الإسلام فأسلم فكان مما يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ” الناس الذين تعيش في ظلّهم هؤلاء الناس ذهبوا ” وبقيت في خلف ” أجيال أتت ” كجلد الأجرب
يتأكلون مذمّة وخيانةً ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
إن الرزية لا رزية مثلها فقدان كل أخٍ كضوء الكوكب
السيدة عائشة كانت تقول: يا ويح لبيد كيف لو أدرك زماننا، فهي علام تتأسف؟ هي تتأسف في آخر أيامها على أن فقدت صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبيها ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ والناس تغيّرت.
فيقول عروة بن الزبير الذي روى هذه الكلمات عن عائشة قال: رحم الله أم المؤمنين كيف لو أدركت زماننا هذا، فقال هشام بن عروة الذي يروي عن أبيه: رحم الله أبي – فأنت كلما تنزل خطوة تلقى الدنيا ايه!، كل مرة تفتكر أنك وصل لقعر الحلة تكتشف أنه لأ لسه فيه –
فقال هشام: رحم الله أبي كيف لو أدرك هذا الزمان، فقال معمر: رحم الله هشاماً كيف لو أدرك زماننا، فقال عبدالرزاق: رحم الله معمراً كيف لو أدرك هذا الزمان، ثم جاءت إلى سلمة بن شبيب؛ الذي يروي عن عبدالرزاق – أنت مش هتقول حاجة – كل هؤلاء قالوا أنت ليس موجوعاً مثلهم، قال: وما عسى أن يقول مثلي إنما أقول التراب على رأسي، أنا واحد من هؤلاء الناس أنا لن أستطيع أن أقول شيء لأنني في الحقيقة أرى نفسي من جملة البلايا، فهذه هي القضية، حد ينعم بصحبة حد.
إبراهيم الحربي – من أقران الإمام أحمد – كان جالساً مع أصحابه في يوم قال: ما تعدّون الغريب في زمانكم – من الذين تصفوه بأنه شخص غريب، فقال بعضهم: الغريب هو من نأى عن وطنه، وقال بعضهم: الغريب هو من فارق أحبابه.
فقال: أما الغريب في زماننا فرجل صالح عاش بين قومٍ صالحين إن أمر بمعروف آزروه، وإن نهى عن منكرٍ أعانوه وإن احتاج إلى سبب من الدنيا – أصابته ضائقة مالية – مانوه – دعّموه – ثم ماتوا وتركوه.
أقول قولي هذا وأستغفرالله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين إذاً خلاصة ما نريد أن نقول أننا أحوج ما نكون إلى أننا نعايش هذا النموذج العظيم، وأول شيء لابد أن نذّكر أنفسنا دائماً بنعمة ربنا سبحانه وتعالى علينا بالإيمان، بنعمة ربنا سبحانه وتعالى علينا بالقرآن، بنعمة ربنا سبحانه وتعالى علينا بأنه عرّفنا بابه من أين، بنعمة ربنا سبحانه وتعالى أنه هدانا وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحفر الخندق هو وأصحابه كانوا يقولوا: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا نعمة أن ربنا آتانا رسول، هذه قيمة كبيرة، عظيمة وعميقة، نحن محتاجين أن ندرك أولاً: قيمتها، ونحاول أن نكون على اتّصال أوثق بها، لا نضيّع من أيدينا هذه النعمة لأننا فعلاً أحوج ما نكون إليها وكلما ندنو منها أكثر كلما ندرك عظمتها أكثر، المشكلة الكبيرة التي نعاني منها أننا مفتقرين فعلاً لشخص يأخذ بأيدينا، هذا شيء فعلاً أصبح صعب، صعب جدّاً، لكن في النهاية قال تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي شخص يريد أن يصل لربنا سبحانه وتعالى حتى إذا لم يجد أحد أن يأخذ بيده، لابد أن ربنا سبحانه وتعالى سيفتح له مسارات كما فتح للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ولم يكن هناك أحد يدعو إلى خير أو يدعو إلى إيمان، حينما بعثه الله سبحانه وتعالى، هو كان يبحث عن الحقيقة، يبحث عن الله، فقال تبارك وتعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا تائه، تائه لا تعرف من أين الطريق، هو يعرف أن هناك ربّ ولكن لا يعرف كيف يصل إليه، لا يعرف ما الذي يُرضي ربنا فيعمله، كيف يعيش بنور الحق والإيمان في ظلّ هذا المجتمع وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى هو سبحانه وتعالى مصدر الهداية.
ولابد أن نبحث عن شخص يساعدنا، ولا يصلح أن نصغي لكل أحد، الدين قيمة عظيمة؛ ومن تعظيمنا للقيمة العظيمة أننا لا نجعل أذهاننا نهباً لكل قائل لا يصلح.
هناك صفات لابد أن تتوافر؛ العلم والفقه والحكمة والإخلاص والصدق قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ما هي البصيرة؟ البصيرة شيئان مجتمعان: فقه وفهم عميق وحكمة ربنا آتاها للإنسان يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
الحاجة الثانية: الحال وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ الحاجتان، لابد أن يتوافروا، قال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ غلبة الخشية والخوف والتعظيم على حال الإنسان، شكله يدلّ على هذا، كلامه يدلّ على علمه، وحاله يدلّ على خشوعه وإخلاصه، إذا لم يكن هكذا لا يكون أهلاً لأن نصغي إليه، فمن تقديرنا وتعظيمنا لنعمة ربنا علينا أننا لا نصغي بأذهاننا ولا بآذاننا لكل قائل أو لكل متكلم، هذا من تقدير النعمة، ومن تقدير القيمة، لابد من الأمرين دول
الفقه والحكمة، والصدق والإخبات والخشوع والإخلاص.
الإمام مالك جاءه الإمام الشافعي ليتعلم منه وسنّه 13 سنة والشافعي من أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه من بني المطّلب، فالإمام مالك أكرم الشافعي لأنه قريب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الشافعي حافظاً لموطّأ مالك، فكان يقرأه عليه، وكانت لغته العربية غاية في الرقي لأنه تعلّم العربية في البادية في هُزيل.
فالإمام مالك كانت تعجبه قراءته فكان يستعيد منه القراءة، يجعله يُعيد فلازمه فترة، ثم قال له الإمام مالك ناصحاً وموصياً.
قال: إني أرى الله تبارك وتعالى قد قذف أو قد وضع في قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية. يقول له أن ربنا سبحانه وتعالى أعطاك علم وحكمة ونور، ما الذي يفسده؟ أن الإنسان يتنكب طريق ربنا سبحانه وتعالى أو لا يشكر النعمة، يخرج من دائرة الطاعة وابتغاء مرضاة الله إلى دائرة المخالفة والعصيان، فلكي نكون بنعظّم الدين فعلاً لابد أن نضع قلوبنا ونضع أذهاننا ونضع عقولنا في المحل الذي يستحق أننا نصغي إليه بقلوبنا وبأذهاننا وبعقولنا.
وهذا ليس فقط تقديراً للدين، هذا أيضاً من تقديرنا لأنفسنا، أنا من تقديري لنفسي أنني لا أصغي لأحد لا يستحقّ أن أوليه من وقتي ولا من ذهني ولا من تفكيري ولا من قلبي، هذا من تقدير الإنسان لنفسه ومن تقديس الإنسان لدينه ونعمة ربه عليه.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
اللهم خذ بأيدينا إليك أخذ الكرام عليك لا تفضحنا بين خلقك ولا بين يديك
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ومن درك الشقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء، ومن عضال الداء، ومن خيبة الرجاء.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك ومن جميع سخطك يا رب العالمين
اللهم إنا نسألك علماً نافعا، وقلباً خاشعا، ولساناً ذاكرا، ويقيناً صادقا، وعملاً صالحاً متقبلا.
اللهم إنا نعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعاءٍ لا يسمع
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين
اللهم يا مقلّب القلوب ثبت قلوبنا على دينك
اللهم يا مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك
اللهم يا وليّ الإسلام وأهله مسّكنا الإسلام حتى نلقاك عليه
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد