إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا,إنه من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادى له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
ثم أما بعد،.
مكة لما أثقلت…
قال الله تبارك وتعالى وهو يصف مراحل الحمل حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قسمه إلى مرحلتين الأولى الحمل الخفيف ليس له كبير ثقل فهى تتحرك وتذهب وتجىء.. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ وأوشكت على الوضع دَعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. تعلقت قلوبهما بالله سبحانه وتعالى وهو محل الرجاء الذى لا يخيب ظن ظانٍ ظن به الخير.
وإنما عنيت بمكة لما أثقلت أى عندما أوشكت أن يشرق عليها نور الله تبارك وتعالى. لقد جعل الله تبارك وتعالى تلك المحلة التى كانت أرضا قفراً. أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون محلا للإيمان الذى سيشرق على هذه الأرضٍ. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أى الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ لماذا رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.
لقد وضع إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام لبنات الإيمان والتوحيد والتعظيم لله تبارك وتعالى فى هذه المحلة. وظلت هذه المحلة تتوارث الإيمان ثم ظهر فيها الشرك بعد, ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أن أهل الأرض من لدن آدم عليه السلام كانوا يتوارثون الإيمان حتى نشأ الشرك أول ما نشأ فى قوم نوح عليه السلام. قال ابن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون – عشر أجيال – كلهم على التوحيد. فكانت مكة على ذلك إلى أن نجم الشرك فيها وظهر.
هل ظهر الشرك فى مكة فجأة؟ هل يتحول الناس من الإيمان إلى الشرك – عياذا بالله – فى لحظة؟ أم أنها كانت تستجن هذا الجنين الشركى ثم ولد حينما جاء أول صنم إلى مكة؟ إذن فالتحول من الإيمان إلى ضده ثم عود الإيمان مرة أخرى والتحول من حال الضلالة والشرك إلى حال الإيمان لا يأتى بغتة وإنما يبزغ نوره ويشرق فى لحظة كما أن هذا الجنين الذى قد إستلُجِنّ أى إختفى فى هذا الرحم شهورا يظهر للعيان ويخرج إلى هذه الدنيا فى لحظة لكنه كان ينشأ ويتكون ويرتقى يوما بعد يوم. هكذا كل تحول فى حياة الناس وفى حياة المجتمعات لا يأتى بغتة وإنما يمر بمراحل ثم يظهر.
والذى لم يكن يدرك أن هذا الجنين قد تخلّق أو الذى لا يبصر ذلك ولا يراه, يُفاجأ بصراخه حين يخرج إلى الحياة. لكن هل يعنى هذا عدم وجود الجنين من نطفة فعلقة فمضغة – على هذا التطور الذى وضعه الله سبحانه وتعالى – كان موجودا وإنما يدركه بعض الناس وينكره أكثرهم حتى يصير حقيقة واضحة جلية واقعة. إذن هناك أسباب حولت قريش من إيمانها وتعظيمها لله إلى غير ذلك.
ولذلك لما جاء عمرو بن لُحىّ الخزاعى بأول صنم فنصبه عند الكعبة كانت متابعة الناس له تدل على إستشراء الفساد فى مجتمعهم. عمرو بن لُحىّ زعيم خزاعة التى كانت قد استولت على مكة وأصبحت السيادة فى مكة لخزاعة بعد جرهم.. أخرجوا بقية جرهم بعدما استطالوا وأفسدوا, وهكذا سنّة الله سبحانه وتعالى فى الخلق, فحلّ محلهم قوم آخرون. وكان عمرو بن لُحىّ رجلا معظما لقيامه على بيت الله ولإغداقه على العباد, فذهب إلى الشام فلما انتهى إلى البلقاء وجد العماليق وهى القبائل التى كانت تسيطر على هذا المكان يعبدون أصناماً فقال ما هذه الأصنام التى تعبدون؟ قالوا هذه نعبدها فنستمطر بها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا. كل أحد يعظم أحدا أو شيئاً لابد أن يكون هناك مغزى أو علة أو حكمة من وراء ذلك. فهم يقولون أنهم يعبدون تلك الأصنام لأنهم يستمطرون بها أى يطلبون منها المطر فتمطرهم, ولما يكون هناك شدة أو ضائقة أو خوف أوفزع, فنستنصرها أى نطلب منها أن تنصرنا.. فتنصرنا. فقال هلا أعطيتمونى صنما من هذه الأصنام أسير به إلى بلاد العرب فيعبدونه. أعجبه الأمر فطلب واحدا ليأخذه معه. فأعطوه صنما يقال له هُبل وهو أول صنم وضع عند الكعبة أتى به وله ذراع مكسورة لاندرى هل هو أصلا كذلك أم أنها كسرت منه فى الطريق. فأول صنم يبدو عليه النقص – عدا عن أنه حجر – فهو مشوه أيضا فى صنعته. ما الذى يدعو الناس لفعل ذلك؟ كون عمرو بن لُحىّ مُعظَّما فى العرب حتى كأنهم جعلوه ربا كلما إبتدع لهم شيئا إتبعوه.
وسبب التعظيم كما قلنا أنه كان إضافة إلى إشرافه على الكعبة وما يتعلق بها كان أيضا يغدق على الناس فى الموسم جدا حتى أنه ربما ذبح فى الموسم عشرة آلاف بدنة.. بما قد يعادل مائة مليون جنية بعملتنا الحالية, وكسا عشرة آلاف حلة بما قد يعادل مائة وعشرين مليونا ينفقهم على الناس فى كل موسم حج فالنتيجة أن يعظمه الناس لأجل إحسانه إليهم فيتبعونه فى كل ما يأمرهم به حتى وإن كان أمراً غير منطقى أو يمس الدين والعقيدة والإيمان بالله, وكان هناك رجل من ثقيف يلتّ للناس أى يخلط لهم الدقيق بالسمن ويطعمهم – فى الحج أيضا – وكان يعتاد الوقوف عند صخرة معينة كل عام ويقوم بهذا العمل. فمات… فقال لهم عمرو بن لُحىّ أنه لم يمت وإنما دخل بداخل الصخرة فبدأوا يعظموا الصخرة وجعلوها من ضمن النسك ومن جملة مناسك الحج وكان هذا يذكرهم بالسويق الذى هو الدقيق بالسمن الذى كان يلتّه الرجل.
ثم بنوا بيتا واسموه اللاتّ وأصبحت قريش تقسم باللاتّ كما كانت تقسم بالعزى. واللات هذا لم يكن سوى رجل يطعم الناس فى الحج الدقيق بالسمن فعبدوه. لماذا حولوه من صخرة إلى بيت.. ما الفرق؟ البيت يصبح له سدنه ونذور وقرابين فتحولت هذه الصخرة من مجرد نسك إلى منظومة إقتصادية مبنية على هذا الصنم ولذلك لا يمكن أن تنهار هذه المنظومة لأنها ليست مجرد عقيدة وإنما هى عقيدة بنى عليها منافع ومصالح إقتصادية كبيرة ولذلك ليس من السهل أن تزول.
ولذلك عمرو بن لُحىّ هذا.. قال الله تبارك وتعالى مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ كل هذه الإختراعات من إبتدعها هو عمرو بن لُحىّ فهو يريد أن يضع تشريعات مثل حمورابى مثلاً فالمشكلة أنه أصبح رجل عظيم يريد أن يقود الناس ويسوسهم ويظهر عظمته عليهم.
تقول عائشة رضى الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم حينما كسفت الشمس جمع الناس فصلى بهم صلاة طويلة. قرأ قراءة طويلة ثم ركع ركوعاً طويلاً ثم رفع ثم قرأ قراءة طويلة ثم ركع ثم رفع فسجد سجوداً طويلاً ثم فعل ذلك فى الركعة الثانية. فعل ذلك إلى أن عادت الشمس كما كانت. وبعد أن إنتهى من صلاته قال إنهما – أى الشمس والقمر – آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فصلوا حتى يفرج عنكم. إلى أن يفرج عنكم الله سبحانه وتعالى الكربة. إستمروا فى العبادة إلى أن تنفرج الكربة ويجب أن تستمر هذه العلاقة بين الإنسان وربه حتى بعد أن تنفرج الكربة.
فالإنسان حين يقع فى كرب أو شده يوجهه النبى صلى الله عليه وسلم أن يلتجىء إلى الله مزيد التجاء. ولكنه إذا كشفت الكربة سيعود إلى حاله الأول وهو حال الكفران والعياذ بالله؟ ولكن الإنسان عندما يكون فى شدة فطبيعى أنه يزيد من الدعاء واللجوء إلى الله وليس هذا بمُستَنكَرأنه بعد أن تنفرج الكربة فهو أمر زائد عن المعتاد فهو يقول صلى الله عليه وسلم أُريت فى مقامى هذا – وهو يصلى – كل شىء قد وُعدته حتى لقد رأيتنى أريد أن آخذ قطفا من الجنة – أى أنه رأى الجنة فى قبلته – وذلك حين رأيتمونى جعلت أتقدم. أنه صلى الله عليه وسلم حين كان يصلى جعل يتحرك خطوات للإمام. فهو يقول حين رأيتمونى أتحرك للإمام حاولت أن أمد يدى لآخذ قطف من ثمار الجنة. ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا وذلك حين رأيتمونى قد تأخرت – عاد للوراء بعد أن كان تقدم للأمام – قال ولقد رأيت فيها عمرو بن لُحىّ وهو الذى سيّب السوائب.
حينما رأى النبى جهنم كان فيها ناس كثيرة لماذا لم ير إلا هذا الشخص؟ قال وهو الذى سيّب السوائب. وقال صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى هريرة رضى الله عنه فى مقام آخر قال لقد رأيت عمرو بن لُحىّ بن قمعة بن خندس يجر قُصبه فى النار أى أمعاءه خارجه من بطنه وهو يجرجرها خلفه. لماذا نص على خطورة هذا الشخص؟ لخطورة ما أفسده. هو أفسد هذا الإفساد وأتبعه الناس لأن الدين بدأ مع الوقت يهن ويضعف وتصبح معايير الطعام والشراب هى التى تقود المجتمع وتوجهه.
ثم بقيت قريش على هذا زمانا. إستمر عمرو بن لُحىّ وأبناؤه مسيطرين على الكعبة ثلاثمائة سنة.. ثم جاء قُصىّ جد النبى صلى الله عليه وسلم فرد الأمر إلى قريش فاستمرت على ذلك حتى مبعث النبى صلى الله عليه وسلم. وضع عمرو بن لُحىّ هُبل عند الكعبة وحينما فتح النبى صلى الله عليه وسلم مكة كان حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنما.كل صنم معظم فى مكان له نموذج ” ماكيت ” عند الكعبة..360 صنم أى أكثر من عدد أيام السنة. هل كل هذه آلهة لهم من الأمر شىء ويشاركون الله سبحانه وتعالى فى سلطانه؟ هكذا الإنسان حينما يذهب عقله.
فى ظل هذه الظلمات يستجن جنين الإيمان ويوشك أن يبزغ فجره بمبعثه صلى الله عليه وسلم. هذا المبعث كما قلنا فى الخطبة الماضية له إرهاص.. أى تحدث أمور فى المجتمع تهىء لمبعثه صلى الله عليه وسلم.. تهىء الناس وتهىء شخص النبى صلى الله عليه وسلم نفسه.
ونحن ذكرنا فى الخطبة الماضية زيد بن عمرو بن نفيل وذكرنا قرينه ورقة بن نوفل. بقيت قريش على ما هى عليه ثم جاء أبرهة يريد أن يهدم بيت الله,حينما جاء أبرهة يريد أن يهدم بيت الله هل كان لللأصنام ذكر أو شأن ظ هل لجأ الناس إليها؟ هل اعتصموا بها؟ هل سألوها وطلبوا منها؟ وإنما كما قال عبد المطلب إن للبيت ربا يحميه.. رد الأمر فى النهاية لله سبحانه وتعالى. ولذلك عبد المطلب حينما وجد أنه ليس له سلطان ولا لأهل مكة لمواجهة أبرهة وجيشه وفيله ماذا صنع؟ أمرهم أن يخرجوا إلى الجبال ثم ذهب فتعلق بأستار الكعبة يلجأ إلى الله ثم ولّى وخرج. تعلق بالأستار وقال اللهم إن العبد يمنع رحله فامنع حلالك. الإنسان يمنع ويحفظ ويحمى اشياءه التى يمتلكها. فالبيت لله وهو يدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظه وأن يحميه. أبرهة كان نصرانياً وكان يريد أن يهدم الكعبة ليعظم الناس القليس الذى بناه باليمن ولم يكن يعظمه أحد.
ثم خرج وصنع الله تبارك وتعالى ما قد أخبرنا عنه – سورة الفيل – هو لم يرهم صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن قد ولد بعد فقد ولد فى هذا العام نفسه بعد هذه الحادثة. فهم كانوا يعلمون أنه لايملك الأمر إلا الله وما أهلك هذا الجيش العظيم إلا حبات كحبات الحمص وهذا هو حال الإنسان وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا فالله سبحانه وتعالى لم يعظم شأنهم فلم يرسل عليهم ملائكة عذاب وإنما طير صغير كل منها ترمى بحبة مثل الحمص على شخص منهم فيهلك. ثم خرجت قريش فى عيد من أعيادها فخرج زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش, ورقة وعثمان وعبيد الله أبناء عم وزيد بن عمرو ذكرناه من قبل فاجتمعوا عند صنم من الأصنام وبدأوا يتكلمون وتصادقوا أى أخبر كل منهم عما بداخله واتفقوا أن يكتم بعضهم على بعض..أى أن أربعتهم غير مقتنعين بما يحدث. فقال قائلهم تعلمون والله أن قومكم ليسوا على شىء ولقد خالفوا دين إبراهيم يعبدون وثنا لا يضر ولا ينفع.. ثم ابتعدوا على أن يبحثوا عن الدين. فهذه بدايات الإرهاص لإستعادة الدين..لاستعادة دين إبراهيم عليه السلام..لاستعادة الإيمان فى المجتمع. أربعة نفر بدأوا يتصارحون أنهم غير مقتنعين بما يحدث فبدأوا يخرجون للشام ليبحثوا فى مهبط وحى اليهودية والنصرانية عن الدين الحق. وقد ذكرنا قصة زيد وما حدث له وذكرنا طرفا من قصة ورقة بن نوفل.. بقى معنا رجلان آخران سنذكرهما بإذن الله.
أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.
الحمد لله رب العالمين..
إذن نحن لا نحكى قصصاً. نحن نريد أن نرى كيف هيأ الله سبحانه وتعالى الناس عموماً إلى أن يستعيدوا الإيمان؟
كيف يهيىء الله تبارك وتعالى لنوره أن يشرق على الأرض؟ وكيف هيأ نبيه صلى الله عليه وسلم ورباه وأعده لهذه المهمة العظيمة التى سيحمل فيها نور الله تبارك وتعالى للعالمين إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
فذكرنا فى المرة الماضية قصة زيد وأنه قد لقى النبى صلى الله عليه وسلم وأنه لما أخرجته قريش كان يخرج إلى حراء وقلنا لماذا اختار النبى صلى الله عليه ويسلم أن يذهب إلى حراء للتعبد فقد ذهب إلى حيث كان يذهب زيد بن عمرو بن نفيل الذى كان يبحث عن دين إبراهيم ويبحث عن الحق وينتظر نبيا موعودا. وقلنا أن زيد بن عمرو مات وقريش تبنى الكعبة قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات ودفن فى أصل حراء تحت الجبل. النبى صلى الله عليه وسلم كان يصعد الجبل ويدخل الغار يطلب الهداية ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقه وأن يرشده.
أين جاءه الوحى, ومن أين انبثق النور, ومن أين أشرق هذا الضياء على وجه هذه الأرض؟ من هذا الغار. فقد نزل جبريل عليه السلام أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم وهو فى هذا الغار. إذن هذه العلاقة ما بين زيد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعت فى قلبه صلى الله عليه وسلم أن هناك نبيا ينتظر وأن هناك قوما آخرين يصبون إلى ما يصبو إليه ويفكرون فيما يفكر فيه فهو ليس وحده ولكن هؤلاء كانوا من جيل قد سبق. فزيد بن عمرو وورقة بن نوفل يمثلان جيلا يمضى وشمسا تأفل ويسلمان مفاتيح البحث عن الحقيقة إليه صلى الله عليه وسلم.
قلنا أن الله سبحانه وتعالى قدر أن يموت زيد قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات لأن مهمته قد إنتهت وقلنا لماذا استمر ورقة بن نوفل إلى حين مبعثه صلى الله عليه وسلم لانه بقى عليه دور عليه أن يؤديه. ما الفرق بين زيد وورقة؟ قلنا أن ورقة لما ذهب مع زيد إلى الشام دخل فى النصرانية وتبنى زيد دين إبراهيم عليه السلام الذى لم يكن يعرف عنه إلا أنه يقوم على التوحيد ونبذ الشرك وكان زيد من القوة بحيث أنه يستطيع أن يكون وحده على وجه الأرض على دين ليس على الأرض أحد مثله أما ورقة فدخل فى الزمرة التى رآها أقرب شىء إلى الحقيقة فى هذا الوقت. هذا أولا..
زيد كان رجلا فاعلا فى مجتمعه وكان يوجه قريش ويناظرهم ويبين لهم بطلان ما هم عليه ولذلك ضجروا به وأخرجوه. كان له دور إجتماعى ودور إقتصادى. فى الإجتماع كان ينهى عن الوئد فكان يأخذ البنات اللواتى سيقتلن فيضمهن إلى نفسه ويربيهن فى بيته يحفظهن ويرعاهن حتى يكبرن. وكان يحذر قريشا من الربا أنه يورث الفقر ولذلك استحق أن يكون أمة وحده.
أما ورقة فكان رجل عزلة وعلم وكتاب. كان رجل نفسه. وقلنا المرة السابقة أن أبا بكر لما رأى أمية بن أبى الصلت يكلم زيد بن عمرو بن نفيل ويذكر له النبوة ذهب إلى ورقة بن نوفل ليسأله لأنه كان رجلاً معروفاً بعلم فلما سأله أخبره عن مبعث نبى ينتظر وأنه سيبعث من هذا المكان. أبو بكر وصف ورقة بأنه كثير النظر إلى السماء كثير همهمة الصدر, كثير النظر إلى السماء أى شخص دائم التأمل.. دائم التفكير, كثير الهمهمة أى كثير القراءة والذكر والمناجاة لنفسه.
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضى الله عنها قبل مبعثه بقليل فقال يا خديجة إنى أرى ضوءاً – أرى أنواراً تنير لى – وإنى أسمع صوتاً – أحد ما يكلمنى – وإنى أخشى أن يكون بى جنن, فهو يرى ما لا يراه الناس ويسمع ما لا يسمعونه فأخشى أن أكون قد جننت. قالت لا والله لا يفعل الله بك ذلك يا ابن عبد الله ما كان الله تبارك وتعالى ليخزيك. ثم ذهبت إلى ورقة لتسأله فقال إن يك صادقاً إن هذا لناموس – وحى – مثل ناموس موسى وإن يبعث وأنا حى أعزره وأنصره وأؤمن به. ثم لم يلبث صلى الله عليه وسلم إلا قليلا حتى جاءه الحق فى غار حراء فرجع فزعا.
تقول عائشة رضى الله عنها ذهب إلى خديجة يقول زملونى زملونى فزملوه حتى هدأ وذهب عنه الروع فأخبر خديجة الخبر وقال لقد خشيت على نفسى. كان يجلس فى ظلام فرأى من يكلمه ويضمه ثلاث مرات. فقالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا وقلنا قبل ذلك أن هذه عظمة لا يقدر قدرها فهى قبل أن تعرف بأمر الوحى فهى بالفطرة تعلم أن الله لابد أن يسدده ولا يمكن أن يخذله فهى تقسم – أى قمة اليقين – كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة. أول مرة سألت هى بنفسها وهذه المرة اصطحبته معها حتى أتت به ورقة بن نوفل, تقول عائشة, ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو بن عم خديجة وكان امرأ قد تنصر فى الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبرانى فيكتب من الإنجيل ما شاء الله له أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمى فقالت له خديجة يا بن عمى اسمع من بن أخيك, فقال يا بن أخى ماذا ترى فأخبره الخبر فقال ورقة إنه الناموس الذى أنزل على موسى يا ليتنى فيها جذعا – يتمنى إن يرجع شابا صغيرا وقد كان شيخا كبيرا كف بصرة من كثرة القراءة – لكى يعيش مع هذا الرسول فترة طويلة ويقوم بواجبه فى نصرته. نحن نقول هذا الكلام كثيراً. ألا ليت الشباب يعود يوما..لماذا؟ ماذا نريد أن نصنع؟ وماذا كان يريد ورقة أن يصنع؟ ليتنى أكون حيا حين يخرجك قومك قال أو مخرجىّ هم؟ أنا على هذه الصفة الصادق الأمين المعظم الخلق والمكانة سيضطهدوننى لدرجة أن يطردوننى من مكة؟ قال نعم لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودى, سنة الله فى الرسل, وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا تقول عائشة فلم يلبث ورقة إلا أن توفى وفتر الوحى.
إذن لماذا أختار الله سبحانه وتعالى لزيد أن يذهب وقد آمن بالرسول واختار لورقة أن يبقى حتى يباشر ويكلم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لأن ورقة بوضعه العلمى يحتاجه النبى صلى الله عليه وسلم لتثبيته وتطمينه فلما أدى دوره وقال ما قال توفى ثم فتر الوحى. أذن فزيد وورقة كل منهما له دور وكل منهما له طبيعة فهذا طبيعته علمية وهذا طبيعته تأثيرية. أيهما أعلى عند الله؟ الله سبحانه وتعالى جعل زيدا بمحله أعظم فالنبى صلى الله عليه وسلم عدّه أمة وحده ولما أخبره عنه عمرو بن ربيعه عنه أنه ترك له سلاما وإيمانا قال وعليه السلام ورحمة الله لقد رأيته فى الجنة يسحب ذيولا – كأنه يقصد ما يشبه ملابس الملوك – تقول خديجة رضى الله عنها سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن ورقة إنه قد صدقك وقد مات قبل أن تبعث قال لقد رأيت عليه ثيابا بيضا ولو كان من أهل النار لكان عليه ثياب غير ذلك فهو لم يصرح أنه من أهل الجنة ولكن أشار إلى ذلك لكن الآخر قال رأيته فى الجنة فهذه منزلة وهذه منزلة ولكن وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى فالناس منازل ومراتب ودرجات ولكنهم طالما كانوا فى دائرة الإيمان فهم فى دائرة الرحمة.
أما بصدد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا محور حديثنا فقد كان لكل شخص منهما رسالة ودور إذا أداها قبضه الله سبحانه وتعالى لأنه قد قضى ما عليه. فالله سبحانه وتعالى حين يريد أن ينشر خيرا أو نورا يهىء له أسباباً. حينما يريد أن يصطفى عبداً يضع فى طريقه من يوجهه ومن يعينه ومن يثبته ومن يؤيده. هكذا هى سنة الله تبارك وتعالى فى نوره وفى دينه وفى خلقه.
النقطة الأخيرة التى ذكرناها مرارا أن الإنسان على قدر ما يسعى على قدر ما يمن الله عليه. زيد بن عمرو لم يكن يعلم الكثير ولكن هذا هو ما كان يعرفه واستطاع أن يصل إليه فرفعه الله سبحانه وتعالى إلى هذه المكانة العلية لأنه قد بذل ما فى وسعه وفعل ما فى طاقته.
إذن ما نريد أن نقوله أن كل جيل عليه أمانة وكل جيل عليه رساله, لو لم يوجد فى هذا الجيل مثل زيد وورقة كان يصعب أن يظهر شخص النبوة فى هذا المجتمع لأنه لم يُهيأ لهذه الرسالة بعد. وكان الجيل الذى بعث فيه النبى صلى الله عليه وسلم يحمل من لبنات الخير ما هو خير وأفضل من الجيل الذى قبله ولذلك استجاب له صلى الله عليه وسلم زمرة من خير الرجال يقول بن مسعود إن الله تبارك وتعالى نظر فى قلوب العباد فرأى قلب محمد صلى الله عليه وسلم أطهر قلوب العباد فاصطفاه لرسالته, ثم نظر فى قلوب الناس بعد فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاصطفاهم لصحبة نبيه فكونوا على مثل ما قد كانوا عليه فقد كانوا على الهدى المستقيم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا, متعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لايخافك فينا ولا يرحمنا ولا تجعل إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هى دارنا.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب علينا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.
أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.